دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

تدبير الروح القدس
 

الروح القدس

حياة الكنيسة

- 2 -

الأسرار الكنسية

 

 

5 - سر الكهنوت

- 2 -

الكاهن كطبيب للنفوس

 

المسيحية هي أصلاً إرسالية الشفاء للنفوس التي أقبلت إلى المسيح الطبيب الحقيقي لأمراض نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا (كما تقول أوشية المرضى في القداس الإلهي).

كيف مرضت الطبيعة البشرية ؟

والكنيسة الأرثوذكسية تنظر إلى سقوط آدم بأنه سقوط الطبيعة البشرية تحت المرض بسبب العصيان. فقد مرضت الطبيعة البشرية بانطراحها بعيداً عن الله. وهذا المرض الذي أصابها يكمن أساساً في سقوط الذهن، مما أدى إلى سقوط الإنسان. الخطية الجدِّية – أي خطية أبينا آدم – كانت تكمن في أن الإنسان ابتعد عن الله بذهنه، ففَقَدَ النعمة الإلهية، مما أدَّى إلى عَمَى العقل وظلمته ثم موته.

وفقدان النعمة الإلهية طَمَسَ ذهن الإنسان الأول، فمرضت كل طبيعته، وبالتالي ورَّث هذه الطبيعة لنسله من بعده. وهذا ما نفهم به، في كنيستنا الأرثوذكسية، معنى ”وراثة الخطية الجدِّية“. والآباء يفسرون كلمات القديس بولس الرسول «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة» (رو 5: 19)، ليس بالمعنى القانوني القضائي، بل بالمعنى الطبي الشفائي، أي بمعنى أن بمعصية آدم مرضت الطبيعة البشرية وتورثت هكذا للبشرية من بعد آدم. أي أن الطبيعة البشرية بسبب خطية آدم سقطت صريعة للمرض. فهذه الطبيعة المريضة هي ما أورثه آدم لنسله من بعده، ذلك لأن الطبيعة هي التي تُورَّث، وليس الخطية التي هي فِِعْل نتيجة الإرادة الشخصية للمخطئ، وهو وحده المسئول عنها فهي لا تُورَّث. وهذا ما دفع الله إلى إرساله ابنه الوحيد لكي يُخلِّص ويشفي الطبيعة البشرية التي هلكت.

وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير عمود الدين:

[بعد أن سقط آدم بالخطية وغرق في الفساد، اندفعت إلى داخله الملذَّات غير الطاهرة، وسادت في أعضائه شريعة الغاب. وهكذا صارت الطبيعة مريضة بالخطية من خلال معصية الإنسان الواحد آدم، ثم بعد ذلك صار الكثيرون خطاة ليس لكونهم شركاء آدم في معصيته لله، لأنهم لم يكونوا موجودين بعد، بل لأنهم أتوا من ذات الطبيعة التي سقطت تحت ناموس الخطية... الطبيعة البشرية في آدم صارت مريضة من خلال فساد العصيان، وهكذا دخلت الشهوات إليها].

تفسير الرسالة إلى رومية

وفى موضع آخر، يستخدم القديس كيرلس تشبيه جِذر الشجرة. فالموت أتى إلى عموم جنس البشر بواسطة آدم:

[كمثلما ينثلم جذر النبات، فكل الأغصان الجديدة التي تفرَّعت منه تذبل وتذوي].

نفس المرجع السابق

فعثرة الإنسان تكمن في مرض الطبيعة البشرية؛ وأما خلاصها فيتحقَّق في شفائها. وإنَّ شفاءها قد تمَّ بآلام المسيح ”الشافية المُحيية“ (كما تصفها صلوات الساعة السادسة من النهار).

الكنيسة هي ”المستشفى“

التي فيها ينال الإنسان الشفاء:

أما الكنيسة فقد أوجدها المسيح لتقوم بعمله العلاجي الشفائي للناس، وبهذا تجعله حاضراً عَبْرَ الأزمان مُتمِّماً عمل خلاصه الأبدي، وهو شفاء البشرية، مِمَّا أصابها من وهن الفساد بسبب الخطية، وذلك بأن تُحضِر مرضى النفوس إليه، وتهيِّئهم للقائه، ولنوال غفرانه، وتعليم وصاياه، وتلقِّي إرشاده لهم في حياتهم طوال مسيرة عمرهم حتى بلوغ الدهر الآتي.

”فالكنيسة مستشفى وليست محكمة“. هذا المبدأ الأساسي الذي نادى به القديس يوحنا ذهبي الفم، وقد استنبطه من مَثَل السامري الصالح (لو 10: 33- إلخ). ففي هذا المثل يُصوِّر المسيح سامرياً مسافراً في طريق موحشة، فإذا به يرى إنساناً سقط بين اللصوص وقد جرَّحوه وتركوه بين ميت وحي. ويقول المسيح إن هذا السامري (وهو غريب الجنس ومكروه من اليهود) ”تحنَّن“ على هذا اليهودي الجريح، وتقدَّم وضمَّد جراحاته وصبَّ عليها زيتاً وخمراً (وسيلة الإسعاف الأولى في ذلك العصر) واعتنى به.

والمسيح يشير في هذا المثل إلى نفسه، فهو الذي عالج الإنسان صريع الخطية، وهو الذي أتى به إلى الفندق (أي المستشفى بلغتنا الحالية) الذي هو الكنيسة. وهنا يُقدِّم المسيح نفسه كطبيب يشفي أمراض الإنسان، ويقدِّم كنيسته كمستشفى يؤدِّي فيها هذا العمل للبشر.

والقديس يوحنا ذهبي الفم يشرح هذا المثل بالتفصيل، ولكن ما يهمنا إبرازه، أن المسيح يقود البشر الذين خلَّصهم إلى الكنيسة، ويستأمنهم لكهنته كما استأمن السامري هذا الجريح لصاحب الفندق (المستشفى)، ويقول لهم:

[اعتنوا بشعبي الذين أعطيتُهم لكم في الكنيسة. وطالما أن البشر مرضى مجروحون بالخطية، فعالجوهم واشفوهم، وضمِّدوا جراحاتهم، بأقوال الله].

ومن شرح القديس يوحنا ذهبي الفم يتضح أن الكنيسة مستشفى، والكهنة هم الأطباء المعاونون للطبيب الأوحد شافي نفوس البشر وأرواحهم وأجسادهم.

وهذه الحقائق تظهر أيضاً في مواضع كثيرة

من العهد الجديد:

فالرب نفسه قال: «لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى» (مت 9: 12). كذلك المسيح كطبيب للنفوس والأرواح والأجساد كان:

+ «يشفي كـل مرض وكـل ضعف في الشعب… فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة، والمجانين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم» (مت4: 23-25).

فالمسيح هو الطبيب الشافي، والكهنة هم رسله الذين يُحضرون إليه مرضى الروح والنفس ليشفيهم، أي يقودونهم إلى معرفة المسيح والإيمان به.

والرسول بولس كان يُدرك أن ضمير عامة الناس - وعلى الأخص البسطاء - ضعيف، فيقول لمَن يظنون في أنفسهم أنهم أصحَّاء وأقوياء:

+ «وهكذا إذ تُخطئون إلى الإخوة، وتجرحون ضميرهم الضعيف، تخطئون إلى المسيح» (1كو 8: 12).

وفي سفر الرؤيا رأى القديس يوحنا الرائي نهر ماء الحياة ينبع من عرش الله والحَمَل:

+ «وأَراني نهراًً صافياً من ماء حياة لامِعاً كَبَلُّورٍ خارجاً من عَرْش الله والحَمَل. في وسط سُوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك، شجرةُ حياةٍ تصنع اثنتي عشرةَ ثمرةً، وتُعطي كلَّ شهرٍ ثمرها، وورقُ الشجرة لشفاء الأُمم» (رؤ 22: 2،1).

كيف يتم تطبيب النفوس؟

طب النفوس هو أساساً شفاء وتحرير الذهن(1).

والمعمودية قدَّمت الشفاء:

وبطقس "الولادة من الله"، أي المعمودية (في مقابل الولادة من آدم)، استنار ذهن الإنسان، وتحرر من العبودية للخطية والشيطان، واتحد بالله. لذلك تُسمَّى المعمودية ”استنارة“.

تطهير الذهن في الإنجيل وكتابات الرسل:

وهناك الكثير مما قيل عن نقاوة الذهن والقلب في تعاليم الرب والرسل. فالرب وهو يشير إلى الفرِّيسيين في عصره الذين كانوا مُدقِّقين في طقوس الطهارة الخارجية، ولكن مهملين في الطهارة الداخلية، قال: «أيها الفرِّيسي الأعمى، نقِّ أولاً داخل الكأس والصحفة، لكي يكون خارجهما أيضاً نقياً» (مت 23: 26).

ويقول القديس بطرس الرسول في أول مجمع للكنيسة: «الله العارف القلوب، شهد لهم مُعطياً لهم (للأمم غير اليهود) الروح القدس كما لنا أيضاً. ولم يُميِّز بيننا وبينهم بشيء، إذ طهَّر بالإيمان قلوبهم» (أع 15: 8).

ويوصي الرسول بولس مسيحيِّي كورنثوس قائلاً: « فلنُطهِّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح، مكمِّلين القداسة في خوف الله» (2كو 7: 1)، وللعبرانيين يقول: «دم المسيح... يُطهِّر ضمائركم من أعمال ميتة» (عب 9: 14)، وكذلك يقول أيضاً وهو يكتب لتلميذه تيموثاوس، مؤكِّداً على أننا نقتني: «سر الإيمان بضمير طاهر» (1تي 3: 9).

والرسول بطرس يؤكِّد على أن محبتنا بعضنا لبعض هي ثمرة القلب الطاهر، لذلك يقول: «طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح... فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22).

وليُلاحظ القارئ أن جميع هذه الآيات تتكلم عن الطهارة والتطهير، وهي كلمات طبية نعرفها جميعاً.

من الذي يكون كفؤاً

للقيام بهذه المهمة للناس؟

إذن، لابد من طبيب النفس. هذا الطبيب عادة يكون هو الكاهن أو الأب الروحي الذي يكون قد بَرَأَ هو أولاً من أسقامه الروحية، أو على الأقل يُجاهد قبالتها الجهاد القانوني الحسن حتى يستطيع أن يشفي أولاده الروحيين. لئلا يسمع القول المأثور: «أيها الطبيب اشفِ نفسك» (لو 4: 23). فالذي استطاع أن يخترق حصون العدو، يقدر أن يقود - بأمان - أولاده الروحيين إلى الشفاء. والذي عرف ذلك الكنز الثمين المسمَّى ”الصحة الروحية“، يقدر أن يعين الآخرين لينالوا الشفاء هم أيضاً. وكل مَن عرف نفسه المعرفة الصحيحة، يقدر أن يعين الآخرين على أن يعرفوا نفوسهم هم أيضاً.

فإذا كنا قد رأينا أن المسيحية هي أساساً إرسالية الله لشفاء وطب النفوس، والكهنة هم المُكلَّفون بإحضار مرضى النفوس إلى المسيح لشفائهم بالوعظ والتعليم والإرشاد الروحي المناسب لكل واحد لشفائه، فإن الكلام الروحي للشفاء يجب أن يكون ثمرة شفاء نفس الكاهن الناطق بشريعة الله، وفى نفس الوقت يكون الكاهن هو القدوة والطريق الذي يُرِي مرضاه كيف يتم شفاء النفوس.

وبكلماتٍ أخرى، فإن الوحيدين الذين يستطيعون أن يتكلَّموا باللاهوتيات والروحيات هم الذين قد نالوا شفاء نفوسهم أولاً، وبلغوا بهذا أعتاب الشركة مع الله. هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يدلُّوا المؤمنين على الطريق الصحيح لبلوغ شفاء نفوسهم.

ولنتأمل الآن في تعليم آباء الكنيسة في هذا الشأن لنزداد استنارة ومعرفة حول هذا الموضوع الحسَّاس جداً.

تعليم الآباء القديسين عن

ضرورة الخبرة والاختبار قبل الكلام :

ولنبدأ بالقديس غريغوريوس اللاهوتي. ففي أوائل عظاته اللاهوتية يقول القديس غريغوريوس:

[إنه ليس مسموحاً لأيِّ مَنْ كان أن يتكلم باللاهوتيات - أي التكلُّم عن الله - فهذا الموضوع ليس رخيصاً أو تافهاً إلى هذا الحدِّ].

إن هذا العمل موكول فقط:

[للذين جازوا الاختبار وصاروا مالكين ناصية رؤية الله، والذين سبق أن تطهَّروا بالنفس والجسد].

أي أن أولئك الذين مارسوا العمل، فتأهَّلوا للتعليم، أي اجتازوا من التطهير إلى الاستنارة، هم وحدهم المؤهَّلون للكلام عن الله.

ولكن متى يتم هذا؟

يقول القديس غريغوريوس إن ذلك يتم: [حينما نخلو من كل دنس وتشويش خارجي، وحينما لا تتحكم فينا أية مؤثرات ملوثة أو خاطئة]. حينئذ [لابد سنكون حقاً مؤهَّلين لمعرفة الله] - عظة 27: 3.

فإذا كان الآباء يؤكِّدون على الخبرة والاختبار قبل التكلُّم والكلام، فإن غياب الخبرة والاختبار لله يؤدِّي بالمتكلِّم إلى كلام غير صحيح عن الله. وحتى وإن عرف وتعلَّم أن ينطق كلاماً صحيحاً عن الله فهو يكون كلاماً عادم القوة، لأنه عن غير خبرة ورؤية، أو قد تكذِّبه أعمال المتكلِّم المتنافية مع كلام الله الذي ينطقه، ومن هنا تحدث العثرات بين المخدومين وتهلك النفوس بدل أن تُشفى.

وعلامة الخبرة والاختبار لله هي المحبة. فالذي نال نعمة الكلام عن الله يكون محمولاً على أجنحة المحبة، وبمعونة الروح القدس ينال نعمة الإفراز والتمييز ومعها موهبة حُسْن التدبير.

فكل ما قاله الآباء، وأوضحناه سالفاً، يعنى أن الكلام عن اللاهوت هو ثمرة شفاء نفس المتكلِّم باللاهوت، وليس كلاماً من العقل مجرَّداً من الخبرة. فالإنسان الذي شُفِيَ من شهواته وتحرر وتطَّهر منها، هو المؤهَّل لأن يدخل إلى الأسرار والحقائق الإلهية العظمى.

لذلك ففي الكنيسة الأرثوذكسية يرتبط الكلام الروحي واللاهوتي بموهبة الأُبوَّة الروحية.

لذلك أيضاً لابد أن يكون الأب الروحي لاهوتيـاً، أي مختبراً وخبيراً بالله، وهكذا يمكنه أن يقود أولاده الروحيين دون ضلال أو خطأ نحو الله.

والعالِم اللاهوتي لابد أن يكون حاملاً نعمة الأُبوَّة، حتى يستطيع أن يلد أولاداً لله في المسيح، ليس فقط بكلامه، بل بشخص المسيح الذي يعرفه معرفة الخبرة والاختبار، ويعرف أيضاً كيف يُوصِّله لتلاميذه.

وبالتالي تتشكَّل خدمة مثل هذا الكاهن بروح الافتقاد والإنقاذ والمعونة، بتوصيل شفاء المسيح إلى النفوس.

(يتبع)

*******************************************

استمع إلى عظات الأب متى المسكين

بمناسبة عيد الميلاد المجيد وعيد الغطاس المجيد

74 / 1، 76 / 3، 77 / 1، 78 / 1

79 / 1، 79 / 2، 81 / 15، 82 / 1، 83 / 1، 83 / 2، 84 / 1

85 / 1، 85 / 2، 94 / 1م، 2001 / 1

78 / 2، 90 / 1، 90 / 2، 90 / 3، 90 / 4، 90 / 5، 2001 / 2

(1) الذهن هو التعبير عن قوة الإدراك لدى الإنسان، وهي ترجمة الكلمة اليونانية في كتابات الآباء nous.