نبذة مختصرة عن:أبونا متى المسكين رجل الصلاة

- وُلد عام 1919.
- تخرج من كلية الصيدلة عام 1944.
- اشتغل في المهنة حتى سنة 1948.
- حيث ترهبن في دير القديس أنبا صموئيل المُعترف في الصعيد [اختار هذا الدير لأنه أفقر دير وأبعد دير عن العمران وأكثرهم عزلة].
- وهناك بدأ يخط أولى صفحات أهم وأول كتبه وهو كتاب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ (الذي صدر عام 1952، ونُقِّح وزيد عام 1968.
- انتقل إلى دير السريان - وادي النطرون (من 1948-1950). وهناك تقبَّل نعمة الكهنوت رغماً عنه.
- في عام 1954 اختاره بابا الإسكندرية الأنبا يوساب الثاني (1946-1956) وكيلاً له في مدينة الإسكندرية بعد انتدابه لدرجة إيغومانس "قمص" حتى منتصف عام 1955 حيث آثر العودة إلى مغارته.
- في أوائل عام 1956 رجع إلى ديره القديم (الأنبا صموئيل).
- في عام 1959 عاد هو وتلاميذه إلى دير السريان استجابة لطلب البابا الجديد البابا كيرلس السادس (1959-1971)، لكنهم آثروا أن يرجعوا إلى حياة الوحدة والهدوء والكامل، فذهبوا إلى صحراء وادي الريان (تبعد 50 كيلو عن أقرب قرية مأهولة بالسكان في محافظة الفيوم) واستمروا هناك ما يقرب من 10 سنين.
- في سنة 1969 دعاه البابا كيرلس السادس مع جماعته الرهبانية (12 راهباً) للانتقال إلى دير القديس أنبا مقار. من هذا التاريخ بدأت النهضة العمرانية والنهضة الرهبانية الجديدة الملازمة لها.
- تنيح فجر الخميس 8 يونيه 2006. ودُفن في مغارة اختار مكانها قبل نياحته بثلاث سنين.
- ظل يوالي تقديم مؤلفاته حتى قُرب يوم نياحته، يُثري بها الكنيسة والعالم حيث تُرجمت كتاباته لكثير من اللغات.

أبونا متى المسكين رجل الصلاة (1)

حياته قبل رهبنته

وُلد "يوسف" يوم 20 سبتمبر عام 1919. كانت أسرة "يوسف اسكندر" فقيرة في الدنيويات ولكنها غنية بالإيمان والتقوى (على حدِّ تعبيره هو نفسه)، إذ كان أبواه يعيشان في مخافة الله والثقة الكلية به. وقد تشرَّب من والديه حياة التقوى منذ طفولته كما روى بنفسه قائلاً:

”عندما كنتُ طفلاً صغيراً (4-5 سنوات، أي نحو سنة 1924) - وأنا أذكر وأعي جيداً ما أقوله، لأن إدراكي كان كاملاً ووعيي مشهوداً له من الأسرة - أذكر دقائق الأمور، إذ كانوا يأتون بي في تلك السن المبكرة عندما توجد مشكلة أو ضيقة، ويضعونني أمامهم لأُصلِّي، ولكني ما كنتُ أعرف أن أصلِّي. ويقولون لي: قُل يا حبيب‍ي ورانا «أبانا الذي في السموات»، فأقول، ثم «ليتقدس اسمك»، فأقول. وهكذا. ثم يقولون لي: قُل: يا رب اعمل كيت وكيت بخصوص الموضوع الفلاني، فأقول“.

”كذلك إذ كان بيتنا فقيراً ولم توجد في ذلك الزمان أفران كثيرة، فكنا نخبز الخبز في البيت، وكان يأتي الدقيق من الطاحونة وهو ساخن في مقاطف، فكانوا يوقفونني أمام المقطف ويمسكون يدي - وطبعاً كان حجم يدي كلها مثل أحد أصابعهم - ويضغطون بها داخل الدقيق وهم يعملون صليباً على القفة، ولم يأبهوا بسخونة الدقيق التي كانت تلسعني، فلا أقدر أن أتكلم لأنني أُصلِّي(2). وكنتُ أشعر في ذلك الوقت برهبة عجيبة، لأن أبي ورائي وأُمِّي وإخوتي السبعة واقفون ورائي، وبينما كنتُ أصلِّي كانوا يتكلمون بصوت منخفض، وكنتُ أفهم قليلاً على قدر سنِّي أن الموضوع خطير وأن الأسرة في ضيقة، وأن الأمر مرفوع إلى الله على لساني، فلم يكن أحد يصلِّي ورائي. كانت تهزني رهبة شديدة، إذ كنتُ أشعر بربنا شعوراً عجيباً“!

كانت هناك حركات روحية تَجيش في أعماقي منذ طفولتي وأنا ابن أربع سنوات، كنتُ أحس بأني غريب عن إخوتي وأصدقائي وكأني من عالم ولعالم آخر حتى أن أسرتي لاحظت ذلك، وكانت تقدمني في اجتماع الصلاة وأنا طفل لكي أبدأ وأختم الصلاة.

أثر تربيته العائلية القائمة على الصلاة:

أما والدته التي كانت لا تكفَّ عن الصلاة بالأجبية في مواعيدها مع السجود (الميطانية) المستمر فقد علَّمت ابنها منذ الصغر أن يصلِّي ويسجد، كما علَّمت أباه أن يصلي هو أيضاً بالأجبية.

قدوة الأم المنحنية الساجدة بالصلاة!

يقول الأب متى المسكين: ”كانت والدتي متدينة جداً بصورة لا يصدقها عقل، فكانت وقبل أن تمرض تدخل غرفة خاصة، وكنت أتمسك بملابسها بإصرار حتى تسمح لي بالدخول معها. وكانت تظل واقفة لعدة ساعات تصلِّي وتسجد، ولا تكفُّ عن السجود مئات المرات، وكنت أحاول أن أسجد معها تقليداً، بل العجيب أني كنت أحس أن هذا ضروري طالما أمي تسجد فيلزم أن أسجد معها، ولكن قواي كانت تخونني فأقف صامتاً أتأملها وهي تقوم وتسجد كالساقية دون أن تكل، لعدة ساعات، وفي يدها سِبْحة وصليب. وما هي الصلاة؟ كان أمراً يحير عقلي، ولكن كان يملأني شعور عجيب بالرغبة الملحة كل مرة لأصلي معها، فكنت أترقبها بانتباه شديد حتى تدخل الغرفة، فيطير قلبي من الفرح حينما تسمح لي بالدخول معها، وأبدأ أسجد!!

ماتت والدتي سنة 1934 بعد سفري إلى الإسكندرية بعد مرض عضال ”فالج“ = ”شلل نصفي“ دام معها 7 سنوات طوال وصرنا نخدمها أثناءها. ولم تتوقف في هذه السنوات عن الصلاة، فكانت بالرغم من ذلك تقوم في نصف الليل تصلي وهي جالسة لأنها كانت لا تستطيع أن تقف أو تتحرك ولا حتى تنطق بأية كلمة إلا كلمة واحدة هي أقدس كلمة عَرَفها لسان بشري وهي كلمة ”كيرياليصون“، فكانت ترددها مئات المرات، وكانت تصلي السبع السواعي التي للنهار والليل في مواعيدها بهدوء، لم تشكو ولم تتذمر، وكنا نحترمها أشد الاحترام ونثق في صلواتها التي نطلبها جداً أيام الامتحانات، كما أَضْفَت على الأسرة كلها التقوى وروح الصلاة.

وفي يوم من الأيام، عاد والدي إلى البيت. وكان يعمل في ورديات ليلية، ثم يعود للبيت في منتصف الليل لينام. أما هي فكانت تقوم الساعة 12 منتصف الليل أو الساعة الواحدة وتصلي صلاة نصف الليل وهي على السرير. فكانت تمسك المسبحة فتقع منها أحياناً فيُصدر صوت وقوعها صدى على الأرض مما يزعج والدي بينما هو يريد أن ينام. ففي مرة قام لكي يزعق لها أن تنام، وإذا به يرى الصليب في يدها منوَّراً بصورة مشعَّة جداً، ففزع وسكت.

وفي الصباح نادى علينا وقال لنا: شوفوا أمكم، ما حدش يكلمها أبداً. اتركوها تصلي كما تريد. وخصَّص لها غرفة لتصلي فيها كما تريد. ودخلته مخافة، فاشترى أجبية وبدأ هو الآخر يصلي صلوات الساعات مثل أي شاب في مدارس الأحد. هذا حدث حوالي عام 1928 أو 1929“.

الصبوَّة: ارتباط الفقر الاختياري بالصلاة:

كنت طفلاً محروماً من كماليات الحياة، أو قُل من جوهريات الطفولة، فلا أملك مصروفاً أبداً، ولا أملك أي شيء مما يملك جميع الأطفال من لعب أو ملابس خاصة أو أطعمة حلوة، ولكن لم أكن أشعر بالحرمان أبداً، بل كنت راضياً به تمام الرضا ولا اشتهيتها، خصوصاً بعد أن دخلت المدرسة. فكنت أمضي فترات ”الفُسحة“ وحدي بينما يذهب الأطفال إلى الكانتين لشراء الحلويات والساندوتشات، لأن مستوى معيشة أهل الطلبة في مدرسة المنصورة الأميرية كان عالياً جداً. وحينما يعزم عليَّ الأطفال مما معهم، كنت أرفض وأعود بقلبي متعطفاً جداً على والدي الفقير مصمماً أن أعيش هذا الفقر راضياً.

ولكن العجيب أن يرتبط في أعماقي شعور هذا الفقر الاختياري قليلاً قليلاً بشعور دخولي مع أمي للصلاة في غرفتها الخاصة، فأحس بأن الصلاة يناسبها جداً أن أعيش راضياً بالحرمان، وأن الشعور بالحرمان لا يطيِّبه ويجعله مقبولاً بل محبوباً مثل الشعور بالدخول في غرفة الصلاة!

ولكن العجيب حقاً أني كنت أربط بين ما تقوله أمي في صلواتها وتكرره مئات المرات ”اجعلني فِداء أولادي، لا تمسَّهم بسوء. أنا فِداهم“ وبين السُّخْرة التي كان يُسَخِّرني بها إخوتي، كنت أقبلها بدون تذمر بل وبرضا، إذ كان ينعكس على فكر صلاة أمي ”أنا فَدَاهم“!

بداية اختبار الشركة مع الله: الصلاة والتسبيح:

”لما انتهيت من الدراسة (بكالوريوس الصيدلة من جامعة فؤاد الأول "القاهرة" عام 1944)، واشتغلتُ، وزنتُ الشهادة والوظيفة، إذ وضعتهما في كفة، وبرية القديسين في الكفة الأخرى، فوجدتُ البرية أفضل جداً، فتركتُ العالم إلى البرية وقلتُ: ها قد دخلنا في حضن المسيح فهلم نبتدئ أيضاً في الدخول في القامات الروحية العالية. فبدأت أَسهر وأُصلِّي وأُسبِّح وأقرأ الإنجيل وكتب الآباء. وابتدأت أنمو قليلاً قليلاً حتى بدأت أشعر مرةً أخرى بالإحساس الطفولي عندما كان عمري نحو أربع سنوات. فشعرت بالرهبة الإلهية، وانتابني الشعور بواقعية بالله سامع الصلاة، وأنه لا يوجد أي فاصل بيني وبين الله، وأنه توجد قضية مرفوعة أمام الله في السماء وأنه يسمعها.

لأنني عندما كنتُ طفلاً كنتُ أفهم أن الموضوع انتهى كنتيجة للصلاة، مع أنهم ما كانوا يقولون لي ذلك، بل كنتُ أفهم ذلك من كلامهم: أن الرب تمجد وأن الضيقة انتهت، وأن بركة ربنا حلَّت.

فكنتُ أفرح، ولكنني لم أشعر وقتها أن هذا كان نتيجة صلاتي، بل إن الرب استجاب الصلاة“.

خبر ة الطفولة كانت خبر ة صلاة:

”عندما أتكلم عن وعيي في طفولتي لم أقصد أنني كنتُ أضرب مطانيات أو أصوم انقطاعياً حتى الغروب أو أسهر. ولكن أفراد الأسرة وضعوني في موقف صلاة، فكنتُ أصلِّي بقلب طفل. وقد ذكرت ذلك لكي أصل إلى غاية هي: كيف تحب الله وتصلِّي له من كل قلبك وقدرتك. صدقوني أن هذا كله تم بالحرف الواحد: عندما كنتُ أصلِّي, كان شعوري وكياني كله كطفل أمام الله. فلم يكن لي عقل غير ذلك الذي يصلِّي، وليس لي إحساس داخلي غير ذلك الذي يصلِّي، فكنتُ أصلِّي بكل قوتي وكل قدرتي. هل هذا صعب؟ فإن لم يكن صعباً على طفل فهل يكون صعباً على قامة رجل؟ فلننفض عنا كل ما في القلب والفكر وكل ما في النفس بكل ما في قدرتنا حتى ندخل في حضرة الله في الصلاة، فيكون كل العقل والفكر والإحساس للرب وحده“.

”أقول لكم بصدق وإخلاص، إنني بعد أن جاهدتُ كثيراً جداً شعرتُ أخيراً أنني أرجع مرةً أخرى للوضع الأول والخبرة الأولى التي اكتسبتها (في أيام الطفولة) بضخامة متناهية، ثم انفكَّت عن وعيي، وابتدأتُ أخيراً آخذها مرة أخرى من جديد. فالحب الإلهي، يا أحبائي، لا ينجح فيه إلاَّ الأطفال، ولا يمكن لإنسان أن يصلِّي من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل فكره وقدرته إلاَّ إذا رجع إلى الطفولة“.

بداية عهده مع الله:

قال الأب متى المسكين عن بداية عهده مع الله أثناء حياته الدراسية:

”في بدء حياتي العلمانية سنة 1939، دخلتُ الكنيسة لأول مرة وسألت: ’إيه دول‘؟ فقالوا لي: ’دول مدارس الأحد‘. وكانت مدارس الأحد قد تأسست منذ سنتين أو ثلاث سنين فقط ولم تكن معروفة من قبل. فجلستُ لكي أرى ماذا تكون مدارس الأحد هذه. وأنا كنتُ ذاهباً في الأصل لكي أقابل زميلاً لي كان قد استعار مني كراسة، حيث إنني ذهبتُ إلى بيته ولم أجده وقالوا إنه في الكنيسة. ولما وجدتُ أناساً يتكلمون كلاماً روحياً جلستُ ووجدتُ أن الآيات التي يرددونها حلوة ورنانة.

وأنا كنتُ قَرَّاء إنجيل من صغري، أي أني منذ أن عرفتُ نفسي كنتُ أقرأ الإنجيل وأخطِّط تحت الآيات بالأحمر. ولكني وجدتُ أنهم يقولون الآية بجدِّية وقوة وشجاعة، ففرحتُ وصار الإنجيل هكذا عظيماً في عينيَّ. والذي يعظ كان محامياً حديث التخرُّج اسمه "وهيب زكي سوريال" (أبونا صليب سوريال بالجيزة بعد ذلك, وهو الذي اشترك في المصالحة بين أبينا الروحي والبابا كيرلس السادس عام 1969. وقد تنيح يوم 2 سبتمبر 1994). وبعد العظة قالوا ترتيلة، وكنت عمري ما سمعت ولا اشتركت في ترتيل، بل كنتُ طول عمري معتكفاً وحدي، وأذهب إلى الكنيسة لأتناول فقط كل شهرين أو ثلاثة، وكان القسيس معروفاً لدينا، ولكنه لم يكن يسألني عما أفعله في حياتي. وكانت الترتيلة هي: "احفظ حياتي ليكون تكريسها يا رب لك، واحفظ زماني شاكراً فيه دواماً عملك، واحفظ يدي محركاً لها بحبك العظيم، واحفظ رجلي للسير في الطريق المستقيم ...". فوجدتُ أن كلامها لذيذٌ ودخَلَت في قلبي وأخذتها أنا بجدِّية. فسألتهم: "هل يمكنني أن أرى هذه الترتيلة"؟ فأعطاها لي أحدهم وأخذتها معي إلى البيت وقرأتها مرةً ثانية ولكنني لم أعرف كيف أردِّدها باللحن لأنني لا أعرف أن أحفظ تراتيل“.

تسليم الحياة لله بالصلاة منذ الشباب:

”كررتُ كلمات الترتيلة عدَّة مرات: "احفظ حياتي ليكون تكريسها يا رب لك". ثم ركعتُ وقلتُ: "يا رب، احفظ حياتي ليكون تكريسها لك. اسمع: أنا لك"! وهكذا صارت هي ترتيلة حياتي كلها! فإما أن تأخذ الإنجيل بجدِّية، أو تأخذه مثل التراتيل التي يحفظونها بأوزان وألحان. أو تحفظ الآيات للمناسبات والمواعظ لكي تكون واعظاً قديراً، وعندما تخدم تكون رجلاً حافظ آيات! أنا لم أحفظ تراتيل سوى بيتين أو ثلاثة من أول هذه الترتيلة، وأخذتُ كلماتها بجدٍّ“.

”وقد أعجبني الأخ وهيب زكي لأنه كان يتكلم بحماس، لأنه كان محامياً ولم أعرف ذلك، فكان يعظ كمن يترافع في قضية، فدخل الإنجيل في ذهني وصار عظيماً، ودخلت آياته في قلبي“.

ومنذ ذلك الحين صمَّم أبونا متى أن يكرِّس حياته وكتب على أول صفحة من إنجيله الصغير المهدي له من مدارس أحد الجيزة: ”ها عهدي ودعائي أن أخدم بيعة أجدادي“.

الصلاة من أجل التوبة

أما القصة الثانية التي تُظهر كم كان يوسف اسكندر في شبابه يحفظ حواسه طاهرة إلى أبعد حدٍّ، ما رواه بنفسه لبعض الضيوف في حديثه عن العين البسيطة حيث قال: ”عندما كنتُ شاباً كانت عيني أقدر أقول إنها طبيعية، وفي يوم ما وجدتُ أنها ليست بسيطة، فارتعبتُ وصرختُ إلى الله. فقد كنتُ ماشياً على شاطئ البحر في الإسكندرية، وأخطأت عيني على البلاج فارتعبتُ جداً وشعرتُ أن شيئاً ما خطأ دخل في كياني كله، فاضطربتُ وانزويتُ، ورجعتُ إلى غرفتي وقلتُ له: يا رب، إنني أريد أن أعيش لك، فإن كنتُ أعيش عمري بعين تنظر يمين وتنظر شمال فأنا هالك وليس من فائدة، فبلاش جهاد بقى إن كنت سأضيع وأهلك، وبلاش أعيش معاك ولا أُصلِّي ولا أذهب إلى الكنيسة ولا أتناول! فإن كانت عيني لها حرية تنظر يمين وشمال وليست بسيطة، فأرجوك وأتوسل إليك أن تعطيني العين البسيطة، ولم أكن قد عرفتُ معنى العين البسيطة. ثم أخذتُ خبرة وازدادت الخبرة وبدأت أفهم ما هي العين البسيطة. فالعين البسيطة يا أحبائي، هي العين التي لا تشتهي، العين التي لا تُدخل شيئاً غريباً (أو شريراً) إلى الداخل“.

بدء الاتصال بمدارس الأحد: اجتماعات الصلاة:

ساقتني قدماي مرة - وكنت أقطن وقتها بمنيل الروضة في شقة صغيرة في حارة قرب النيل (حوالي سنة 1940 - 1943) ناحية الكنيسة بالجيزة لكي أقابل زميلاً لي (اسمه عوض باسيليوس وهو الآن صيدلي بالإسكندرية)، قيل لي في المنـزل أنه موجود الآن في الكنيسة بالجيزة. وهناك في الكنيسة كان يحضر اجتماعاً للصلاة، فحضرته، وفي نهاية الاجتماع طلبوا مني أن أُصلِّي، وكانت أول مرة في حياتي وأنا في القاهرة أن أُدعى للصلاة في وسط الكنيسة، فصلَّيت بدون تردد، وكنت متحمساً جداً في صلاتي لأني عندما أُصلِّي أكون صادقاً مع نفسي وأحس بوجودي في حضرة الله. والذي أذهلني أنه بعد الصلاة التفت الجماعة كلها حولي وكانوا نخبة من طلبة الجامعة يدمنون الصلاة والوعظ والخدمة منذ مدة طويلة. وأنا أول مرة أُصلِّي وأسمع عن الخدمة، وبدأوا يسألونني عن اسمي وظروفي وما الذي أتى بي إلى الكنيسة، ففهمت في الحال أن صلاتي كانت مؤثرة، طلبوا مني كلمة وعظ فاندهشت لأنهم غير محتاجين إلى وعظ، ولكني فهمت أنهم يريدون أن يكتشفوني، فتكلَّمتُ كما طلبوا مني.

(وفي هذه المناسبة نذكر العلاقة بين قدس أبونا متى المسكين وزملائه في مدارس الأحد بالجيزة حيث كانوا أربعة شبان علمانيين جامعيين قرَّروا أن يُكرسوا نفوسهم للرب، وهم: سعد عزيز (أنبا صموئيل)، ويوسف إسكندر (أبونا متى المسكين)، وظريف عبد الله (القمص بولس بولس)، ووهيب زكي (القمص صليب سوريال). وكانوا يسهرون معاً في الصلاة في بيت سعد عزيز، كما ذكر الأب متى المسكين في كلمته بمناسبة نياحة الأنبا صموئيل في (مجلة مرقس - أكتوبر 1981 - ص 3): ”كان بيته مرتع شبابنا مع زمرة من أقدس الشبان الذين عرفهم هذا الجيل، حيث كانت تُعقد السهرات الروحية والصلاة لتمتد حتى الصباح. وفي بيته انسكبت على جميعنا روح التكريس، ودعانا الرب لخدمته، فخرج كل منا منطلقاً في دعوته“).

ازداد حنيني لله جداً، وازداد حُبي له. فكنتُ بعد أن أنتهي من عملي بالأجزخانة، أذهب إلى منـزلي بدمنهور في الساعة 11 مساءً، وأبدأ أُصلِّي وأنا راكع حتى أفرغ من الأجبية (كتاب الصلوات وبه صلوات الليل والنهار جميعاً)، وأُبلل فراشي بدموعي. أين أجدك يا الله؟ لقد بحثتُ عنك في كل مكان فما وجدتك: لا في العلم، ولا في السياسة، ولا في تعصُّبات رجال الدين، ولا في المال الذي بدأ يملأ خزانتي. فأين أجدك؟ سؤال ظل هو موضوع صلاتي ودموعي بالنهار أثناء العمل وبالليل أثناء هذه الصلاة.

كانت أدق وأخطر مرحلة في حياتي، وأخصب وأعمق إدراك لله والحق والحرية والحب بدأ يسكن قلبي كردِّ فعل لتوسلي ودموعي. بدأتُ أحس بسلطان يفوق إرادتي يعمل داخل كياني.

طلبتُ من الله بلجاجة أن يُسهِّل خروجي من العالم لكي أعيش حرّاً من بني الإنسان، أو بالحري لأعيش منتهي حريتي في الله، أو على الإطلاق أعيش في الله. كان هذا أمراً غير مُصدَّق لي ولجميع أقاربي وأصدقائي، وفي ذهني أنا أيضاً. فقد بلغتُ درجة من النجاح في المدينة جعلت جميع الأجزخانات يعملون لي ألف حساب. فقد كان ترتيب أجزخانتي التي اشتريتها (بعد غلق دام أربعة سنوات لأن صاحبها لم يكن صيدلياً)، بحسب ترتيب القدرة الشرائية والمبيعات رقم 6 بين الأجزخانات التي عددها 6، ولكن بعد سنة واحدة بعد شرائي لها ارتفع الترتيب ليكون الثاني.

الاختبار الرهباني:

ويشهد أبونا الروحي في حديث له عن بداية حياته الرهبانية إذ يقول عن الدعوة الرهبانية:

1. الدعوة من الله:

”أول شيء في الحياة الرهبانية هي الدعوة. أنا كانت عندي حرارة روحانية بسيطة جداً في قلبي، وقد أعطيتُها فرصةً, فظلَّت تزيد حتى خطفتني من العالم مع أنني كنتُ مقيَّداً بقيود لا تُفكُّ. فكسر المسيح لي كل قيودي وأخرجني بعد أن أضجرتُه من كثرة صراخي وصلاتي! فقد قلتُ له: فُكِّني، فُكِّني، فُكِّني! فالدعوة تأتي في شكل حرارة داخلية تظل تزداد حتى تجعلنا نترك العالم. هذه الحرارة هي هي الدعوة إلى المسيح“.

كما قال هو عن نفسه أيضاً: ”منذ أول يوم دخلتُ فيه الدير دخلتُ الحياة مع الله بقوة وبساطة وعمق وهدوء، كنتُ أمضي الليل كله في الصلاة لمدة ثلاث سنوات، لأني كنتُ لا أستطيع النوم وقلبي يدق بشدّة بلذة حب وفرح لا يعرفها إلاّ العشّاق (لم أختبر حب المرأة، وذلك عن وعي وتمنُّع). فكنتُ أنام وأقوم في الحال، لذلك انحصر نومي في حالة الإنهاك حيث تحتَّم عليَّ أن أستسلم للنوم عن انغلاب. أحببتُ الله حباً بكل ما أملك عن وعي وأصالة ومقارنةً بعمالقة الآباء في العهدين القديم والجديد“.

2. الانقطاع عن العالم دافع للصلاة لله:

كما أنه يشرح خبرة الانفكاك من العالم وكل شيء في بداية دخوله الدير (يوم 15 أغسطس 1948) قائلاً: ”أول ما دخلت الدير قلتُ: اسمع يا رب، أنا لعازر الميت، أَيمكن أن تقيمني؟ يا رب، أنا منتن وكل ما أطلبه منك هو أن تُقيمني من فضلك! ومكثت هكذا مدة طويلة عرفتها باليوم والساعة والدقيقة: 28 يوماً. لعازر مكث أربعة أيام وأنا مكثتُ 28 يوماً ودموعي لا تكفُّ قائلاً له: يا رب، أنا لعازرك الجديد أَقِمْني، وفي نهاية الـ 28 يوماً أخذتُ قوةً غير عادية أقامتني كما يقوم الميت من القبر“.

”قال الرب (عن لعازر) «حلُّوه ودعوه يذهب». ومن جهتي وجدتُ نفسي قد انحللتُ (أو انفككتُ) تماماً من العالم ومن الناس ومن كل الأشياء. فصرتُ لعازر القائم من بين الأموات، ويستحيل أن أنسى ذلك، فقد كانت هذه الـ 28 يوماً هي بداية الحياة مع الله التي لا تُنسَى، أي الحياة الأولى مع الله“.

”في الحقيقة، يا أحبائي، أنا ذقتُ هذه الخبرة على مستوى المسيح. فأول ما دخلتُ الدير وجدتُ أنني انقطعتُ عن العالم, حيث كان الأصدقاء والأقارب يحبونني وأحبهم، وكنتُ أحب أن أشتري لهم هدايا، وكنتُ رجلاً اجتماعياً بكل معنى الكلمة، مئات من الناس والأصدقاء، وكانت لي مسرات في العالم صحيحة وسليمة: فقد كنتُ أحب الطبيعة والبحر في الإسكندرية، وأحب الموسيقى والصور الجميلة كالزهور، وكنتُ أرسم وأُلوِّن بالزيت وأعمل صور العظماء الذين في العالم. وفي لحظة وجدتُ نفسي لابساً الثوب الأسود وداخل الدير ومقطوعاً من الدنيا. ثم قلتُ للمسيح: "ما هذا؟ ما هذا يا جبار البأس"؟ عندما أبحث عن الدنيا في قلبي لا أجد شيئاً أبداً مما كنتُ أحبه وأهيم به، فأقول للرب: "يا جبار، سَرَقْتني من العالم! كيف حدث ذلك؟ كيف استطعتَ يا ربي يسوع أن تملأ كل مسرات قلبي؟ إنك عجيب"“!

3 - ثم رؤية وجه يسوع مالئاً قلبي وعينيَّ:

”ابتدأت أشعر أن المسيح عملاق وفي استطاعته أن يمصَّ كل مشاعر الإنسان وعواطفه! فلا أب ولا أُمّ ولا أخ ولا أخت ولا أصدقاء ولا طبيعة ولا جمال ولا موسيقى ولا شيء إطلاقاً. كنتُ أتأمل في السماء وعيني مفتوحة وكأنها مغمضة. فبينما كانت عيني في السماء كان عقلي تائهاً، كنتُ أسمع أصواتاً وأسمع موسيقى أجمل من أي موسيقى سمعتها في حياتي، شيء مهول، فمع أن عيني تكون مفتوحة فكنتُ لا أرى شيئاً. وكان وجه يسوع مالئاً قلبي وعينيَّ وأنا فرحان متهلل والفرح يتفجَّر بداخل قلبي. كل ذلك، يا آباء ويا إخوة، كان يحدث في خمس أو ست أو سبع ساعات، والدموع لا تكفُّ، هذا كان من أول يوم في رهبنتي“!

”وما كان يتردَّد على فمي عندما أفتحه لأكلمه هو: "كيف سَرَقْتني من العالم يا سرَّاق النفوس؟ كيف استطعتَ أن تفطمني من كل شهوات الدنيا"؟ وذلك بينما كانت دموعي نازلة وأشعر بالمسيح يملأ السماء والأرض. وإذ كنتُ أصلِّي على سطح الدير، فلما أنزل إلى القلاية أجد أنه لا توجد مسرَّة والدنيا ظلام بالليل، فأصعد إلى السطح مرةً أخرى. هذا هو ما جُزته تماماً بسبب محبة المسيح والاشتياق إليه. فعندما أحاول أن أنام لا أجد النوم، فأقوم وأصعد إلى السطح وأناجي المسيح بطريقة أقوى من الأولى وبدموع أكثر غزارةً, وهكذا كأنه شيء لا ينتهي، ويوم يعبر وراء يوم، وشهر وراء شهر, شيء لا يكفُّ ولا يَقِلُّ، بل إن هذه العواطف كانت تنمو وتزيد في قلبي وتتأجج نحو المسيح. فأدركتُ حينئذ سر كلام بولس الرسول: «خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح» (2كو11: 2). هذه الآية كانت تتردَّد في ذهني كثيراً حتى ملأت قلبي ووعيي، وكنتُ أقرأها وأتأمل فيها باستمرار، فشعرتُ أن روحي مثل عذراء عفيفة فعلاً، وأنا أقدِّم هذا الإحساس: عذراء عفيفة للمسيح كل يوم. فعندما أركع أمام المسيح وأصلّي يكون إحساسي بداخلي أنني عذراء عفيفة متقدمة للمسيح للخطوبة، إحساس لم يفارقني قط حتى هذه اللحظة، لأن هذه الآية وراءها سر، وهذا السر في الحقيقة ملأ قلبي“!

4 - اختبار الحب الإلهي لما ملأ قلبي:

”فالنفس البشرية عذراء مقدَّمة، بشفاعة العذراء، للمسيح لخطوبة أبدية، لزواج أبدي. وهذا هو أحد أسرار الطريق. فالحب الإلهي لما ملأ قلبي، أي حبي للمسيح مثل حب فتاة، صدقوني إنه حبٌّ لعريس الحياة؛ ابتدأ الطريق أمامي يتعمق جداً ويرتفع جداً ويسمو جداً. والعبد لله، كما ترونني، جسمي قليل وأعصابي رهيفة جداً. الرهبان يظنون أن أعصابي من فولاذ وعظمي من حديد! ولكن أعصابي رهيفة لدرجة أنني لما أتكلم ساعة كاملة أرقد، ولما أسمع حديثاً ساعة كاملة أدوخ. جسمي ضعيف، فقد عشتُ معظم أيامي آكل القليل مع اعتكاف شديد. وقد انبرت (أو تآكلت) حياتي في الجبال، فالطريق سِرُّه في الحب الإلهي! أول ما يدخل الإنسان في سر الحب، فمهما كان ضعيفاً يصير عملاقاً، يسهر بدلاً من ساعة عشر ساعات، كنتُ أقف في الصلاة وكانت كعباي تصرخ عليَّ، وصرتُ أسهر من أول الليل إلى الصباح وأضرب مطانيات“.

5 - فرح الموت عن العالم:

اختبر الأخ المبتدئ يوسف ذلك لحظة خروجه من العالم هكذا، إذ يقول:

”ركبتُ القطار وأنا ماشي (خارجاً من العالم) والدموع لم تفارقني من الفرح الذي لا يُحَدُّ. ولم أعرف حينئذ هذا الفرح، فرح بدموع! إنه فرح يسوع الذي علامته الدموع! لا يمكن لأحد أن يفرح بالمسيح جداً ولا يبكي من الفرح! فالفرح المفرط بالمسيح يسكب الدموع. وإن كان الفرح الذي في العالم إذا كان شديداً يجعلك تبكي أيضاً؛ لكن فرح المسيح المصحوب بدموع هادئة ليس فرحاً انفعالياً. عندما تفجَّرت الدموع من عينيَّ عرفتُ أن هذا هو فرح الموت عن العالم. وأثناء بكائي جزتُ معنى الموت عن العالم دون أن أدري في تلك الساعات. وبعد ذلك كنتُ أقابل الناس مثل واحد قام من بين الأموات“!

”... جاءني فرح الموت عن العالم مرةً أخرى عندما رأيتُ الدير من بعيد، فقد خفق قلبي من الفرح وكأن هذه هي المدينة المنيرة التي رآها السائح (في كتاب قديم اسمه "سياحة المسيحي"). لم أفرح في حياتي الرهبانية كلها مثل فرح ذلك اليوم، وقد لازمني مدة طويلة حيث كنتُ أعيش فرح الموت عن العالم: لا يوجد عالم! لا يوجد بشر، لا يوجد لي أهل وأخوات وإخوة، لا يوجد لي أصدقاء، فقلتُ للرب: "لقد سَرَقْتَني، إنك سرقتني من العالم"! فالموت عن العالم، يا أحبائي، فَرْحَتُه لا يمكنك أن تتصورها. وهي مثل فرحة ملكوت السموات تماماً: «صُلب العالم لي وأنا للعالم» (غل 6: 14)“.

6 - اختبار معونة المسيح حيث لا يوجد معين:

كما ذكر أبونا متى خبرته في معونة المسيح له في بداية رهبنته بقوله: ”كنتُ ملتجئاً إلى وجه الله جداً منذ أول يوم في رهبنتي، فقد خرجتُ ولا أعلم إلى أين أذهب، من سيرعاني ويعولني في البرية جسدياً أو روحياً أو في أي عمل وليس لي هنا أب اعتراف أو مرشد، لكن الله صار لي راعياً. فالراهب الذي يؤمِّن مكان رهبنته وطريقه لا يمكن أن يكون راهباً، فالرهبنة دعوة إبراهيمية، صدقوني إن هذه هي أول مرة أنطق هذا التعبير ولكنه لذيذ: [الرهبنة دعوة إبراهيمية]. فمن خبرتي الضعيفة ومن أيامي التي جُزتُها كسحابة صيف كنتُ أشبع كثيراً من الرهبنة أكثر مما أخذته. ففي أيامي التي قضيتها بعيداً عن كل معونة كان المسيح هو مُعيني، فعلَّمني وقادني بنفسه في الطريق وأرشدني، وتكلم معي بنفسه، وحدثني عن حياتي ومستقبلي. فطمأنني على خلاصي وآزرني في ضيقاتي“.

”لأنكم لا تنسون، يا أحبائي، أنني كنتُ راهباً غلباناً وعشت مبتدئاً في جبل. ولما ترهبت لم أجد أحداً بجانبي، فالقافلة التي جاءت بي إلى الدير رجعت ومكثتُ وحدي، تصوروا ذلك! فطمأنني المسيح على خلاصي، وبكيتُ أمامه بدموع التوبة الصادقة شهراً كاملاً، 28 يوماً بالتحديد، وأنا أسكب نفسي سكيباً أمامه باعتراف عن خطاياي، فعزَّاني كما تهدهد الأم طفلها وتعزِّيه وتُسلِّيه حتى يكفَّ عن البكاء. وطيَّب المسيح خاطري وعزَّاني حتى كفَّت دموعي“.

”وكنتُ قد تركتُ أب اعترافي (القمص مينا المتوحد) في مصر القديمة حينما ذهبتُ إلى دير أنبا صموئيل ولم يرَني إلاّ بعد ثلاث سنوات ونصف. فكان جهادي مع المسيح وتوسلي إلى الله أن يأخذ بيدي ويرشدني، وفعلاً كان يرشدني ويعينني جداً، لأنه رأى أنه ليس لي زميل ولا أب في البرية يعزيني، فكان هو لي الزميل والأب! وكان أب اعترافي قد قال لي: تضرب 350 مطانية في الليلة، وحتى اليوم لا أستطيع أن أعطيها لأي راهب، لأنني أشعر أنهم لا يقدرون عليها، وقد وصلت إلى 600 مطانية وأنا ساهر وأُسبِّح بالتسبحة السنوية ثم الكيهكية كل ليلة على مدار السنة، وكنت أُسبِّح بالعربي، وأُسبِّح طول الليل. وعندما أتعب, أجلس وأظل أُسبِّح وأُهلِّل للعذراء وأفرح، ولما أستريح أقوم أيضاً وأضرب مطانيات حتى الفجر. ولا كأني تعبت ولا كأني صلِّيت وأنا واقف على رجليَّ. شعلة نار متقدة! فالضعيف صار عملاقاً، وكان الحب الإلهي يتأجج في قلبي الليل والنهار“!

”ها أنتم ترون راهباً مثلي غلبان، ولكن من أول شهر في الرهبنة ابتدأت أكتب تأملات روحية ليس من فراغ يا أبهات، اسمعوني، ليس من فراغ. فقد أحببتُ المسيح من كل قلبي ونذرتُ له حياتي إلى الأبد بحيث لا يدخل فيها العالم بشيء قط ولا بقشة. ثم إنه لم يكن لي هدف إلاَّ عبادة المسيح. ففي هذا الطريق ليس لي هدف غير الطريق الرهباني الذي ربطتُ به نفسي إلى الأبد، وأخلصتُ للمسيح، فإذا بالمسيح يردُّ لي مئات الأضعاف، وكحسب وعده أعطيته شيئاً فأعطاني مائة، أعطيته حياتي فأعطاني حياته. وأصبح الإنجيل مصدر عزاء، وصارت الكنيسة بكل طقوسها وصلواتها ولاهوتها وأخبارها وقديسيها داخل قلبي وفي دمي“.

7. التعلُّم مع العمل والصلاة:

”لم يعلِّمني أحد اللغة القبطية بل تعلَّمتُها بنفسي، وألَّفت فيها كتاباً في الأجرومية القبطية, ولكنني لم أُرِدْ أن أطبعه. وكل العلوم الكنسية درستُها بدون مدرس وتغلغلت في دمي. أخلصتُ للمسيح وجلستُ تحت رجليه متأدباً كل مساء، آخذ منه وأهذُّ. ولكني كنتُ أجاهد وأشتغل بجسمي فوق كل ذلك.

حينما كنت في مصر القديمة قبل ذهابي للدير، كنتُ أعجن وأطبخ وأخدم شماس وأعمل قربان (في كنيسة مار مينا بمصر القديمة). أنتم عندما تعملون 20 قربانة تطلبون مساعدين، وأنا كنت أعمل 200 أو 600 قربانة وحدي: أعجنهم وأختمهم وأخبزهم وحدي، ويوم الأحد كان الرقم يزيد، فكان يأتي البعض ليساعدوني، وبعد الخبيز أخدم كشماس، وبعد الكنيسة أعمل في المضيفة لأقدم القهوة للضيوف، وبعد ذلك أطبخ، وعند الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر أذهب لأنام، ولما أستيقظ أتمم الصلوات كلها من أول باكر، هذا هو الضعيف الذي أمامكم، لأن ناراً كانت تتقد في جسمي“.

8. التسبحة مع العمل:

”ومع كل ذلك لم أكن أشعر بالتعب إطلاقاً، وركبتاي في آخر اليوم تكون سائبة وأمشي أجرُّ فيها وأنا أُسبِّح، وعند الفجر كنتُ أُسبِِّح مع المُسبِّحين أيضاً, وأظل أُهلل وأُسبِّح وأنا خارج من الكنيسة، وأظل سكراناً هكذا بالتسبحة حتى آخر ربع, ثم أستريح قليلاً وأقوم للعمل مرة أخرى. ففي الحقيقة، يا إخوة، إن الحب الإلهي إذا دخل في قلب إنسان غيَّره وحوَّله، وهذا هو سر الطريق, وسر النصرة لكم, وسر الغلبة, وسر وحدتكم, وسر العزاء الذي لا يفرغ أبداً“!

9. اختبار الحب الإلهي:

”الحب الإلهي إذا انسكب في قلبك لن تحتاج إلى شيء في حياتك. ثم أقول إن الأمر لا يحتاج إلى جهد. إنني لما وجدتُ أنني مقطوع من الدنيا كلها وكنتُ أنظر إلى المسيح وشعرتُ أنه هو الذي جذبني وخلَّصني من كل شيء؛ كنتُ أشعر بفرح وملء داخلي، ولم أشعر بفراغ أو جوع أو حرمان, فانتبهت إلى أن المسيح ملأني، وعلاقة الحب لم تخمد إطلاقاً. فسرُّ الطريق هو الحب الذي إذا دخل فيك ستأتي أنت وتقول لي عن أعمال الله معك كل يوم, والفرح الذي يملأك والقوة التي تدفعك في الطريق والدموع والعزاء والسهر والصمت والرزانة والحكمة التي تملأك وتزداد كل يوم بالنعمة. والحرارة الروحية سببها هو الحب الإلهي، وهذا هو سر الطريق كله“.

10. اختبار الوجود في حضرة الله:

يحدّثنا أبونا عن اختبار الوجود في حضرة الله بقوله: ”من أصعب الأمور في حياة الإنسان هو أن يختبر وجود الله معه ويتحقق من وجوده في حياته وعمله. يا سعد الإنسان عندما يتحقق بالاختبار وجود الله معه. هذا الاختبار هو رأس مال المسيحي عموماً ورأس مال الراهب المزكَّى. وقد كان سبب كل ما كان لنا فيه نصيب من تأليف كتاب أو عظة أو أي خدمة هو توسلي الشديد أن أشعر بوجود الله. وكان يرافقني كلام القديس أوغسطينوس الذي اختبره بقوله: "بحثتُ عنك خارجاً عني فلم أجدك، ثم وجدتك هناك عميقاً في داخلي". في البداية كنتُ أتصور أن الله في السماء وأنا على الأرض، ثم حاولتُ تكوين صلة معه بالصوم، حيث صُمتُ كثيراً ولعدة سنوات كنتُ آكل مرة واحدة في المساء، ثم أسجد طوال الليل حتى وصلت إلى 600 مطانية، وذلك لكي أذوق فقط وجود الله. وفجأةً وجدتُه داخلي، ومنذ ذلك الوقت شعرتُ بسلام“.

”كانت الحياة في دير أنبا صموئيل صعبة للغاية والمعيشة بضيق الضيق، وكان طلوع السلم فيه عذاب. ولكن بعد أن أحسستُ بوجود الله في حياتي صرتُ أستلذ هذه الحياة الصعبة، وصرتُ خفيفاً لا أشعر بالسلالم سواء في النـزول أو الصعود، صرتُ أشعر بأن وزني أخف. وكان لي شعورٌ آخر، هو أنني ابن ملك (برِنْس أي أمير) ولستُ صعلوكاً. كنتُ أولاً أشعر بحرمان وأن الله في السماء. فلما شعرتُ بوجود الله وأنني مرئيٌ له, تغيَّر وجودي المادي والجسدي، فكم كان الوضع الروحي! لم تقلّ المطانيات ولا الصلاة ولا الإنجيل ولا السهر، ولكنها تحولت كلها إلى فرح. فقد صارت المطانيات لها إحساس بديع اختباري: وهو أنني أهبط في سجودي لأموت مع المسيح عن الخطية، ثم أنهض لأقوم معه مولوداً جديداً, شاعراً بوجود الله فيَّ ووجودي في الله.“ وفي موضع آخر قال أبونا: ”كنتُ في بداية رهبنتي أمسك الصليب عندما أنام وأحضنه، ويتهيَّأ لي أن المسيح نائم في حضني، ويأخذني النعاس وأنا شاعر بالاكتفاء بأن المسيح نائمٌ معي“.

ومرةً أخرى قال: ”كنتُ أطلب ألاَّ أكون شيئاً مُهمَلاً في طريق الخلاص - خلاصي أو خلاص الآخرين – فوجدتُ أن نتيجة إحساسي بوجود الله هو كل ما تسمعونه وكل ما أكتبه“!

وقد تكلم أبونا الروحي في موضع آخر أيضاً عن كيفية اختبار الإحساس بالوجود في حضرة الله فقال: ”المسيح موجود فينا ويريد أن ينبِّهنا إلى وجوده، ففي اللحظة التي تنتبه فيها قلوبنا، بالروح وليس بالعقل، أن المسيح قائمٌ فينا تُحَلُّ مشاكلنا في الحال. وفي مرة قلتُ وكتبتُ في مقالة: كم مرةً وقفتُ أمام الله ومعي مشاكل هذا عددها وأسئلة عديدة، أسئلة مستعصية وليس لها حل، وكانت تتحول إلى بكاء ومن البكاء إلى نوع من الحزن لعدم وجود حل. وأطلب من صلاة إلى صلاة, لعل الله يستجيب، ثم حدث مرةً ومرات أنني أحسستُ أن الرب قريب وقد اقترب إليَّ، فلا أحتمل وأقوم وأُصلِّي فأجد أن كل الأسئلة سقطت ولم يقف أمامي أي سؤال، ليس لأنه قد وُجدت حلولٌ للأسئلة، بل تكون هي نفسها قد أُلغيت، فلا أجد للسؤال مكاناً لا في حياتي ولا في نفسي. إن وجود المسيح فيَّ قد حلَّ كل المشاكل ولم يعد هناك سؤال يحتاج إلى إجابة“!

”ففي الحقيقة إن وجود الله في حياتنا إنما هو وجودٌ سرِّي, يتحقق في الصلاة المخلصة الحارة المرتفعة إلى الله بدون طلب. فكلما قلَّت الطلبات أو توقفت نهائياً, ترتفع الصلاة إلى أقوى طاقة ممكنة توصلنا للمسيح. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنني عندما أقف وأُصلِّي للمسيح حبّاً في الرب وإكراماً له فقط، أي أنني أصلِّي لأنني أحبه وأريد أن أُقدِّم نفسي وأُقدِّم حياتي وروحي له كإنسان يشعر بفضله وإحسانه عليَّ, فأنا أُصلِّي لكي أُرجع إليه الفضل وأردَّ الإحسان والجميل؛ ففي الحقيقة تكون هذه هي صلاة الاتصال بالرب التي يحقق فيها وجوده فأشعر بوجوده فيَّ. وهذا يجعلني أكتفي به وفيه“.

”فإذا تحسستُ وجود الرب في حياتي ففي الحال لا أجد مشاكل، وقد أصبحت الأسئلة ليس لها قيمة في وجوده. فالعقل كان يلحُّ عليَّ بالسؤال وإذا لم يردُّ الرب عليَّ أحزن، ولكن حالما أُحس أن الرب موجودٌ فيَّ وقريبٌ مني وأشعر به في حياتي, أجد أن السؤال صار سخيفاً لدرجة أنه لا يحتاج إلى إجابة لأنه تلاشى بكلِّيته في اختبار الإحساس بوجود الله. في الحقيقة هذا هو سر حضرة الله واختبار وجوده فينا“.

11. نعمة الاستنارة في فهم الإنجيل:

يقول أبونا متى بخصوص ذلك:

”عندما دخلت الرهبنة، في سن 30 سنة، بدأت أسهر على لمبة جاز نمرة 5، وكنتُ أحاول التقليل من إضاءة الشريط حتى لا يُستنفذ الجاز، لأن تمويني في الشهر كان فقط ملء زجاجتين من الجاز، وكنتُ أريد أن أسهر كل ليلة. فقلت: يا رب، أعطني نعمةً. وصلَّيتُ كثيراً حتى انفتح الإنجيل أمامي وصرتُ أستوعب كثيراً، فوجدتُ نور الإنجيل ومجده شيئاً كثيراً جداً, فارتعبتُ. ثم بدأتُ أحزن في نفسي وأكتئب بعد أن شعرتُ بقوة الإنجيل وسلطانه في نفسي وعلى حياتي، وبعد أن أحسستُ بقوة التغيير تسري في جسمي وقلبي بصورة جارفة كل يوم. فبدأتُ أبكي كثيراً، لماذا؟ لأنني قلتُ: يا رب، الإنجيل مليء بالذخائر. آيات قليلة أخذتُ منها الكثير جداً، فمتى أنتهي من الكتاب بعهديه؟! إن كان بهذا المستوى فأنا محتاج إلى 100 أو 200 سنة بذهن صافي جديد، وأنت عارف، يا رب، أن الذهن لن يمكث معي كثيراً، فإن عبدك يطلب منك يا سيدي أحد أمرين: إما أن تُطيل في عمري، أو تعطيني شباب ذهن لكي أستوعب الإنجيل كله، لأنه حرام أن يكون أمامي 10-12 سنة بعد سن الثلاثين ثم يبدأ الذهن ينطفئ! فتعطيني استيعاباً كثيراً جداً حتى تعوضني, يعني أستوعب في شهر ما كنتُ أستوعبه في سنة أو سنتين، وبغير ذلك سأكون حزيناً جداً, أريد أن أفرح بالإنجيل، وأخاف أن ينتهي عمري ولا أُكمِّل استيعاب هذا الإنجيل بجماله“!

”طبعاً تعرفون أنني تأملتُ في الإنجيل كله في العهدين وشبعت كثيراً إلى أقصى حد. وهو سبب البركة في حياتي, وهو سبب عزائي, وهو الذي كان سندي، وهو نوري وخلاصي، وكل كلمة وجدتُ فيها بهجةً لي. أفتح في أي موضع أجد النور أمامي، عندما أكون تعبان أفتح فأجد راحتي تسبقني“.

وفي إحدى الجلسات قال أيضاً: ”من كثرة تأملي في كلمة الله، كانت كل آية تنفتح وراء آية, شيء لا ينتهي, ذقتُ معنى قول داود النبي: «كلمتك حلوة في حلقي، أفضل من العسل والشهد في فمي» (مز 119)، إذ صارت كلمة الله أحلى من العسل والشهد، وهذا الطعم في فمي لم يفارقني قط مدة من الزمن كأنني أكلت صفيحة عسل! أقول لكم ذلك لكي أؤكد لكم أن كلمة الله مذاقُها بالفعل على المستوى الحسي أحلى من العسل، هذا ما اختبرتُه بنفسي“.

”والآن أُعلِمُكم بأن المسيح الحلو الطيب ماذا كان ردُّه عليَّ: كان ردُّه أنه أعطاني هذه وتلك (طول العمر والذهن الذي يستوعب). لم أظن أن ذهني سيظل يستوعب أكثر من عشر سنوات، ولكنه أعطاني بسعة جداً، من سن 30 سنة حتى الآن (55 سنة في وقت الحديث). وها أنا كما ابتدأت في الإنجيل تماماً, بعافيتي, هي هي في ذهني وروحي. صدقوني أن الرب من حنانه لم يرضَ أن يشيخ قلبي، فإنني أقرأ كما كنت زمان بقوة روحية كما ابتدأت في الإنجيل“.

ويقول أبونا في موضع آخر: ”كان الإنجيل هو أمنيتي التي خرجتُ من أجلها من العالم، كنتُ في العالم مشغولاً، وأودُّ أن أهدأ لأقرأه بفهم وبوعي، وكان عملي يشغل يومي من 7 صباحاً إلى 11 مساءً. وقلت ربما أهدأ السنة القادمة، وانتهت تلك السنة والتي بعدها، وهكذا كان الزمن يتآكل مني. وبعدين قلت: يستحيل أن العالم يغلبني، فلا بدَّ أن أتمتع بالمسيح والإنجيل. يستحيل أن العالم يأخذ مني شبابي والـ 24 ساعة كل يوم! لما كنت أغيب عن عملي قليلاً كان الناس يقومون بثورة، لأنه، كما تعلمون، كان عملي متصلاً بالجمهور, فكيف أهرب وأنا عليَّ واجبات؟ فكنتُ حزيناً، ولكن كلما ازدادت واجباتي كلما كنتُ أتيقن بضرورة الخروج من العالم“.

12. الانطلاق إلى الرهبنة كان بسبب الرغبة في التمتع بكلمة الله:

”كانت أمنيتي الوحيدة أن أعطي للمسيح الـ 24 ساعة في اليوم كلها، فظللتُ أصلِّي حتى فكَّني ربنا من العالم وذهبتُ إلى الدير. وبدأت أقرأ في كتابي في العهدين وأتمتع، وزادت قراءاتي من 30 إلى 50 أصحاحاً في اليوم، فحقَّقتُ شيئاً من فرحتي بالإنجيل. ولكن قابلتني مشكلة أحزنتني فبكيت: إذ أنني لما ابتدأت بسفر التكوين ووعيتُه جيداً، وكنتُ أخطط بالأحمر تحت الآيات المهمة، حتى بدأت الآيات تدخل في حياتي, وجدتُ أن الذي حصَّلته كان قليلاً جداً! ثم أمسكت بسفر التكوين مرة ثانية وأحضرت كراسةً وقلماً لم يوجد غيرهما في الدير، لأن السكة كانت مقطوعة وقطعتها أنا بيديَّ، فلا أحد يبعث لي خطابات ولا أردُّ على أحد ولا صلة لي بإنسان قط، فقطعت كل الصلات لكي أتمتع بالرب، وليس كحالة مرَضية أو عزوفاً عن الدنيا أو كراهية للناس، لا، فكما ترونني أنني أحب الناس، ولكنني لم أَدَعْ شيئاً يعوقني إطلاقاً عن حبي الكامل للمسيح، وعن استيعابي للكتاب المقدس“.

سر انفتاح الإنجيل:

ويلخص أبونا سر انفتاح الإنجيل أمامه كراهب مبتدئ في ترك كل شيء وعدم نعي هم أي شيء، فيقول: ”استهوتني كلمة الله فبعتُ كل شيء بلا ثمن، بعتُ العالم من أجل الكلمة، فهل تعزُّ عليَّ كلمة الله؟ هل تغلق الكلمة بابها أمامي؟ يستحيل! يعني أريد أن أُظهر لكم السر: فبينما كنتُ تاركاً للعالم إذ كنتُ قد بِعتُه؛ انكشف الإنجيل، إذ أن ترك كل شيء وتبعية المسيح, هذه الوصية, هي الإنجيل كله. وطبعاً ليس معنى ذلك أن كل مَنْ يبيع ويصير راهباً ينكشف له الإنجيل، فهذا ما لا أعنيه، ولكن ممكن يكون واحد غني جداً وأمواله لا تساوي عنده شيئاً، وتصير كلمة الحياة عنده أثمن من العالم وخيراته كلها. أعرف كثيرين (علمانيين ذوي غِنَى مادي) علاقتهم بالكتاب المقدس قوية جداً، والبعض منهم مدة زمانهم في الإيمان قصيرة“.

أما السر الثاني في انفتاح الإنجيل له فهو غيرته على الكلمة وشغفه العظيم بها، إذ يقول:

”بقدر ما يتقدم العالم في معرفة المسيح بقدر ما يُستَعلَن له المسيح! أنا اختبرتها في حياتي على المستوى الفردي. إنني إنسان أكاد أن أكون أُمِّـياً، فلم أتعلَّم الدين في مدرسة ولم أدرك الدين على يد إنسان ولا حتى الروحيات على يد أب. للأسف بدأتُ أُميّاً أو كإنسان يزحف على بطنه، كنتُ أطلب المعرفة بدموع من الله، ومن الآباء وما كتبوه بدقة وسهر الليالي. ولا أعرف لماذا لا توجد فيكم هذه الروح؟ إنني لم أطلب الغيرة من الله، ولكن غيرة الله التي نسمع عنها: «غيرة بيتك أكلتني» كانت فيَّ وأنا لا أعرف أنها غيرة، وكانت تأكل فيَّ ولا أعرف ذلك إلاّ عندما وجدتُ رهباناً مثلي، وهم أفضل مني، ولكن ليست لهم هذه الغيرة، فلماذا يا ربي؟ ثم إنني لم أنظر إليهم كثيراً، بل نظرتُ إلى نفسي، فبدأتُ أشكر وأُسبِّح إلهي العجيب الذي نظر إلى اتضاعي ومسكنتي وأعطاني روح غيرة على بيته. وشعرتُ وأنا في البرية كأنني مسئول بالنسبة للكنيسة في العالم، أي أن الغيرة كانت تأكلني بالنسبة للعلمانيين وبالنسبة للخدام والإكليروس والرهبنة وبالنسبة للشعب كله، كل هذا وبينما كنتُ منعزلاً بعيداً في الجبال وسط 5 أو 6 رهبان طيبين (في دير أنبا صموئيل). في هذا الوضع كانت الغيرة تأكل فيَّ أكلاً“.

”وكنتُ أسهر وأسهر، وكنت أعتبر الآية: «طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهراً كل يوم» (أم 8: 34) أنها آية حياتي، فكنتُ أسهر حتى الصباح، وهذا ما لم أكن أفعله أيام الدراسة مع دروسي أو امتحاناتي. ثم رأيتُ الحقيقة التي ها أنا أسجلها اليوم: «إن طلبتموه يوجد لكم، وإن تركتموه يترككم» (2أي15: 2)“.

13. اختبار الصلاة في حياته:

[أعتقد أن الموهبة الحقيقية للراهب هي الصلاة الدائمة].

يقول أبونا الروحي عن ذلك:

”في بداية رهبنتي عشتُ كإنسان غريب، أشعر أن عليَّ واجبات ولكن ليس لي حقوق أطالب بها. وأي خطأ مني كنتُ أُسرع إلى الله وأعترف له به بصوت مسموع وببكاء لأنه لم يكن في الدير أب اعتراف. فكنتُ أعترف بكل خطأ أولاً بأول. وكانت في غرفتي شقوق كثيرة، وكان الرهبان يتنصَّتون عليَّ أثناء صلواتي دون أن أدري. فكان الراهب يقترب ويضع أذنه ليسترق ما أصلِّي به، فكانت صلواتي لها تأثير قوي في الدير“!

”باعترافي للرب بكل غلطة أو هفوة تكوَّنت علاقة حساسة جداً جداً بيني وبين الله، فقد صار هو بالفعل أباً لي، ففي كل ضيقة أو تعب أرجع إليه وأشكو له, فيسمعني. والعجب، يا أبهات، أن الله كان يداويني مثل أب روحاني وجسداني معاً. فالحساسية بينه وبيني كانت شديدة للغاية لأنني كنتُ سأضيع بدون مرشد، فالرهبان كانوا صغيري السن وضعفاء روحياً، والذي ترهبن معي (سعد عزيز وصار اسمه الراهب مكاري الصموئيلي) تركني وانصرف بسبب صعوبة المعيشة في الدير، فبقيت وحدي، فكان الله خير أب ومرشد. وكنتُ أرتعب من أية خطية أو هفوة، لأنني كنت أشعر أنه يمكن أن تُغرقني وتُلقيني بعيداً عن الطريق، فقد كنت أجاهد وحدي, والطريق صعب وشاق ومخيف جداً، فقد سندتني مخافة الله والصلاة“.

ثم يقدم أبونا الروحي نفسه كقدوة ومثال فيقول:

”ها أنا مثال أمامكم، فقد عشتُ في الطريقين:

الطريق الأول: طريق الحب والهيام في المسيح، والموت الكامل عن العالم لكي أقدم نفسي ذبيحةً عن العالم.

الطريق الثاني: طريق الخدمة وتأليف الكتب لمنفعة الآخرين وخلاصهم.

ولكنني أشهد لكم أنه شتان ما بين الطريقين، وأنا لا بدّ راجعٌ إلى الطريق الأول لأنه أفضل جداً“.

وقال أيضاً في نفس الكلمة:

”السيد المسيح لم يحتمل آلام الصليب وعاره إلاّ لأنه علم أن هذه الآلام إنما هي من أجل الآخرين لخلاصهم. فالحب الذي في قلبه نحو الخليقة جعله يقبل الآلام المريعة والهزء والعار. هذا هو معنى الفدية. الذي يوجد فيه المسيح يكون قد قبل روح الإنجيل الذي هو روح الفدية. إنه يقبل ويرضى أن يتألم من أجل الآخرين ولا سيما الخطاة. وإذا حلَّ روح الإنجيل في إنسان فهو روح بشارة وكرازة وخلاص لنفوس جميع الناس. فهو يجعل الإنسان لا يكف عن الصلاة ليلاً ونهاراً لأجل جميع طغمات الناس سواء الأحباء أو الأعداء، المؤمنين أو غير المؤمنين، الرؤساء أو المرؤوسين... إلخ. ولا تهدأ النفس حتى تقدِّم بالصلاة تلك النفوس للمسيح لكي يباركها ويؤازرها بروحه حتى تسعى إلى الخلاص“.

”روح الإنجيل هذا يُلهب نفوسنا للصلاة من أجل جميع الناس. هل الإنجيل ما زال مجرد كلمات نردِّدها ونتلذذ بها وليست وصايا تُعاش؟ هل إذا سألني إنسان أن أُصلِّي من أجله, أصلِّي من أجله بنفس الاهتمام الذي يُظهره هذا الإنسان في سؤاله؟ كلا! إذن، فإن كنتُ لا أحس بتعب الآخرين وقيمة خلاص نفوسهم، فروح الإنجيل لم يستقر بعد فيَّ، وأنا بكل تأكيد لا زلتُ غريباً عن المسيح وعن أبناء الملكوت“!

14. عهود ومبادئ:

وقد عبَّر هو بنفسه عن هذه العهود والمبادىء بقوله:

”أنا عشتُ بمبدأ وكنتُ به أسعد إنسان حتى اليوم، وكتبته عندما لم يكن عندي شيء أكتب به، كتبته بالحبر الأحمر الذي كنتُ أعمل به بالفرشاة، والذين رأوا قلايتي التي ترهبتُ فيها رأوا ذلك بأنفسهم. كتبتُ هكذا: "نحن علينا واجبات وليست لنا حقوق". ووضعتُ هذه العبارة في قلبي من أول يوم عشتُ فيه مع الله في أغسطس 1948. عشتُ بهذا المبدأ: أنا ليس لي حق في شيء، وأي شيء يأتي إليَّ هو خير وبركة. فلم أطلب من راهب ولا من المدبِّر (الربيتة)، ولا حتى من الله - حيٌّ هو الله - لم أطلب من الله، والله لم يجعلني أحتاج إلى شيء في حياتي إطلاقاً. كنتُ في أعماق الصحراء وأعماق أعماق الفقر، ولكن الله أرسل لي ما أَكتَسِي به وما آكله بعد أن كنتُ أكاد أموت!

وأرسل الله لي كتب آباء الكنيسة (الباترولوجيا)، وكانت لأول مرة تدخل القطر المصري، وصلتني دون أن أعلم مَنْ هو الذي أرسلها، لأنني أخذتُ عهداً مع الله، إذ قلتُ له: "لن أشتري كتاباً أبداً، والكتب التي ترسلها أنت لي تكون أنت قد وقَّعتَ عليها لكي تصلني لأقرأها، وكل كتاب يصل إليَّ سأقرأه، وما لا تريدني أن أقرأه أبعده عني". وكل كتاب وصل إليَّ قرأتُه، ولم يجعلني الله أحتاج إلى شيء أبداً. وكل ذلك كان من واقع إحساسي أن عليَّ واجبات وليس لي حقوق“.

بأخطار من جنسي (2كو11: 26):

كانت الأديرة في ذلك الوقت خاليةً تماماً من الرهبان المثقفين وذوي القامات الروحية. وكان معظم الذين يترهبون ليس لهم غاية إلاَّ الحصول على وسيلة للمعيشة بطريقة شريفة. ومن هنا كانت المشاجرات على المقتنيات والأوقاف الخاصة بالأديرة، ولذلك كان هو يعاني من ذلك. فعلى سبيل المثال ذكر الحادثة الآتية:

”تشاجر مرةً اثنان مع بعضهما بالضرب، وكنتُ أنا سامعاً للمشاجرة التي جرح فيها أحدهما الآخر. فقالوا: "نادوا على أبونا متى لكي يرى الموضوع"، وأنا كنتُ مغلقاً على نفسي. ولما سمعتُ الصراخ والمشاجرة ركعتُ وصلَّيتُ بحرقة وعزيمة ودموع، وقلتُ للرب: "أنا فداؤهم يا ربي، ارفع عنهم روح الشر هذه، ارفع عنهم هذه الضيقة وأنا أحملها عنهم، إنهم أولادك يا رب وهم غلابة، وأرجوك وأتوسل إليك أن تجعل الدير فيه سلام. أعطني أنا الضيق واجعل الدير في سلام، يا رب اعمل, يا رب اصفح". فلما جاءوا لينادوا عليَّ سمعوا صلاتي إذ وضعوا آذانهم على الحائط الذي كان مشققاً، فتأثروا وذهبوا وصالحوا بعضهم بعضاً وقبَّلوا بعضهم بعضاً، ثم هدأ الدير! فقلتُ: "يا سلام، أهكذا تكون قوة الصلاة! إيه ده يا رب؟ هذه نعم وبركات". ولما نزلتُ أتمشى وأنا فرحان لهدوئهم قالوا لي: "اسكت احنا لما سمعنا صلاتك من أجلنا عملنا كذا وكذا"، فحزنتُ قليلاً، ثم قلتُ: "ها إن الصلاة قد نفعت"“!

15. أيهما نختار: التأمل والفرح المفرط ولكن مع الراحة، أم الفرح والسلام مع الضيقات والآلام:

أخبرنا أبونا عن هذه التجربة بقوله: ”بدأ الله فجأةً يُدخلني في تجارب عنيفة تفوق قامتي. فقد بدأت الناحية السلبية تُستَعلَن في علاقة الله معي، وما يعتبره الفلاسفة "خرافة الشيطان"، ابتدأ يتحقق عملياً بالمواجهة في حياتي. ولكن لكي أسهِّل عليكم لا أقول: ”شيطان“، بل سأقول: التجارب السلبية، لأنها هي أعظم ما يُعبِّر عن شخصية الشيطان. ففي البداية لم أحتمل وبدأتُ أتذمر وأرفض. فبدأ الله يزيد التجارب. فصممتُ على الاحتجاج والرفض، وصمم الله على المزيد من التجارب وزيادة عنفها. فبدأتُ مرةً أخرى أدخل في علاقة مع الله للدخول بالصورة الأخرى المكروهة لدى الإنسان: لماذا يعامل الله الإنسان بهذه السلبية؟ ولم يكن الجواب سهلاً. فحينما ازدادت التجارب جداً وازداد معها انتباهي للنواحي السلبية في علاقة الله بالإنسان؛ ابتدأت الصورة تظهر أمامي واستُعلن أمامي سر الصليب“.

”فالصليب يمثل أعنف معاملة سلبية لله مع الإنسان. وقد كتبتُ كتاب "مع المسيح في آلامه وموته وقيامته" عام 1960, وأنا في عمق الألم، وفي محاجاة مع الله مثل أيوب، إذ كنتُ أتوسل بنسك وصلوات حارة متواترة لكي يكشف لي الله عن الخطية والعيوب التي فيَّ لكي أتوب عنها وأعدِّل من حياتي، ظناً مني أن هذه التجارب أو السلبيات هي نتيجة وجود أخطاء وعيوب في حياتي، فكانت إجابة الله جملة واحدة: "هل من الضروري أن تتألم من أجل خطاياك؟ ألا تريد أن تتألم معي وتشاركني في صليبـي"؟ ومنذ هذه اللحظة بدأت أكتب هذا الكتاب، وبدأت كل كتاباتي تتغير وتتركز في المعنى الإيجابي. وكاعتراف أمامكم أقول إن الملكوت الذي في الإيجابيات الحلوة السهلة، بالتأمل والفرح المفرط، لا يساوي شيئاً بجوار السعادة والفرح والسلام الذي حصلتُ عليه من الناحية السلبية لما أخذتُها إيجابياً“.

16. لماذا لا يجب أن نطلب من الله المواهب الروحية؟

”في بداية رهبنتي كنتُ ألحّ على الله وأقول له: "أعطني موهبة لكي أخدمك بها". فحدث أني رأيتُ في حلم شخصين عرفتهما للتو: إنهما الرب نفسه، وأنبا باخوم وكانا ينظران بعضهما لبعض ويتحدثان معاً. ثم قال الرب لأنبا باخوم: "قل له أنت". فقال لي: "يا ابني، لا تطلب موهبة. الموهبة تضرَّك ولا تنفعك. فلا يوجد شيء أتعبني وسبَّب لي ضيقات كثيرة على الأرض سوى المواهب". ومنذ ذلك الحين لم أعُد أطلب موهبة من الله. وعرفتُ فيما بعد أن الموهبة لا تُخلِّص الإنسان، إذ أن الرب يقول في الإنجيل: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرِّح لهم إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (مت 22:7-23)“.

في مصر القديمة:

وقد حدثت قصة طريفة عند الأب مينا في مصر القديمة يذكرها هو هكذا: ”كان الناس يُحضرون للأب مينا أناساً فيهم شياطين لكي يصلِّي عليهم، وأحضروا له ولداً عمره نحو 18 سنة فيه شيطان، وظل الأب مينا يصلِّي عليه وعذَّبه جداً، ثم طلب مني أن أُصلِّي عليه، فقلتُ له: "لا يا أبانا، ليس لي في هذه الموهبة". فقال لي: "علشان خاطري". ولما رفضتُ مرةً أخرى، قال لي: "خذ هذا الصليب وصلِّي عليه (على الولد)". ولما اقتربتُ منه كانت رائحته رديئة جداً، وكان يريد أن يضربني. وكان الشيطان قد منعه من الأكل ثلاثة أيام. ولما أمرته أن يترك الولد شتمني، فقلتُ له: "الولد سيموت"، فقال: "أنا أريد أنه يموت". فقلتُ له: "موش حرام عليك"؟ فقال: "شوفوا الأهبل العبيط ده، هو إحنا عندنا حاجة اسمها حرام"؟ ترجَّيتُه فشتمني وقال لي: "إبعد عني". ولأنني كنتُ قد صلَّيتُ أربع ساعات متواصلة, قال: "سأخرج! في عَرْضَك، في عَرْضَك". ثم خرج منه، وقال الولد إنه جوعان، فأحضر له والداه طعاماً، وبعد أن أكل أراد أن يشرب فركبه الشيطان مرةً أخرى. ولما طلب أن يشرب، أحضرتُ ماءً وصلَّبتُ عليه فوجده مرّاً ولم يشرب، ولما أعطيته ماءً دون أن أُصلِّي عليه وجده حلواً وشرب منه! فقلتُ: "يا إلهي"!! أهكذا هي قوة الصليب؟ فمن ذلك الوقت تيقنتُ أن رشم الصليب مرعبٌ للشياطين وله أثر فعَّال غير منظور في المادة، أثرٌ روحاني لا يدركه إلاَّ الشيطان أو الملاك أو الإنسان الروحاني. فعلامة أو إشارة الصليب قوة مُرَّة علقم على الشيطان لا يستطيع أن يحتملها“.

التوجه إلى برية شيهيت:

ذهب الأب متى إلى برية شيهيت وزار أولاً دير السريان بحسب ما أوصاه الأب مينا أبوه الروحي. ولما زار دير السريان استقبله أنبا ثيئوفيلس رئيس الدير والرهبان وفرحوا به جداً حيث مكث هناك نحو أسبوع.

زيارته لدير البراموس، صورة رائعة للحياة الرهبانية ولشيوخ دير البراموس وهم يُصلُّون التسبحة:

ثم استأذن منهم أن يزور دير البراموس حيث يوجد شيوخ كبار وقديسون، وهو يذكر ذلك بقوله: ”كنتُ في زيارة لدير البراموس، وفي الحقيقة إن الله متَّعني وعزَّاني بأن أرى آخر عهد الشيوخ القديسين في ذلك الوقت. فقد كان الدير فيه نحو 12 أو 15 شيخاً كان حوالي نصفهم قد تعدَّى المائة سنة. وكنتُ أعرف منهم الأب شنوده البراموسي الذي كان هو أب اعتراف الأب مينا المتوحد. ولما زرته في قلايته قال لي: "يا واد أنا أبقى أبو أبوك". فقلتُ له: "تبقى أنت جدِّي". فقال لي: "لا، أبو أبوك، فلا يوجد في الرهبنة شيء اسمه جدِّي"“!

”ثم أيقظوني لحضور صلاة نصف الليل، فوجدت أن كل الشيوخ حاضرين في الكنيسة. ثم طلبت أن أسلِّم على الأب ميخائيل الزرباوي في قلايته، فقالوا لي: لا تذهب لأنه لا يقبل أن يذهب أحد ناحية قلايته، بل إنه يضرب أي زائر بالطوب!! ولكنني ذهبتُ إليه، ولما رآني من الشباك سلَّط نظره عليَّ مدة طويلة ثم أشار لي بالمجيء، وقال لي: "أنت مين؟ متى المسكين"؟ قال ذلك من نفسه، هكذا يعلم المسيح (لأن الأب متى لم يكن قد أخذ بعد اسم "متى المسكين"). فقلتُ له: "نعم". فأدخلني وأصرَّ أن يعمل لي شاياً على وابور الجاز. وبعد أن شربنا الشاي جلس بجانبي وقال لي: "كيف حالك"؟ فقلتُ له: "أنا كان نفسي أراك". فقال: "يا مرحباً". وقلتُ له: "نفسي يا أبانا تحكي لي عن أيامك والشيوخ الذين استلمتَ أنت منهم". فقال لي: "يا بُنيَّ، دير البراموس طول عمره عَمْران بالشيوخ، فماذا أحكي لك؟ كنا نهتم بالصلاة باستمرار، فنحضر الكنيسة بتخشُّع وانسحاق. ولما كان أحد الشيوخ يكرُّ المزمور بسرعة كان الشيخ الذي بجانبه يزغده بالعكاز لكي يصلِّي على مهله، وكان الكل يُسبِّحون بهدوء وسكينة ودموعهم لا تكفُّ طول الصلاة وتسبحة نصف الليل"“!

”كما أنه قال لي: "كنا يا ابني نسمع الشيطان وهو يصرخ على سور الدير لما نضرب جرس نصف الليل ويقول: يا ويلي من الرهبان, حرقوني بصلواتهم"! فقلتُ في نفسي: إنني أصدق هذا الكلام بسبب المنظر الذي رأيتُه: شيوخ بذقون بيضاء واقفين بوقار, فقد أكرمني الله بأن رأيتُ هذا المنظر، وها أنا أنقله لكم كشاهد عيان وليس ما نقرأه في الكتب. إنني أنقل لكم رهبنة كانت موجودة منذ 150 سنة, صورة من مناظر القديسين الذين عاشوا وكرَّموا الرهبنة بعرقهم وسجودهم وطقسهم، وهذا هو القانون الرهباني الذي نريد أن نسير عليه“!

وذكر الأب متى أنه في ليلة القداس الإلهي الذي حضره في دير البراموس رأى رؤيا، فقال إنه عندما وصل إلى دير البراموس كان مُتعَباً جداً من الطريق, لدرجة أنهم لما أعدُّوا طعام العشاء وجدوه قد راح في نوم عميق، وأرادوا أن يوقظوه ولكن رئيس الدير قال لهم أن يتركوه ليرتاح. فظل نائماً لمدة ساعة، ثم استيقظ من نفسه بعد أن رأى هذه الرؤيا: بمجرد أن استغرق في النعاس الثقيل شعر بأن نفسه قد خرجت من جسده وأنها مبتعدة عن الجسد. وكان يرى جسده مُلقى على الفراش. ثم أُخذت نفسه إلى كنيسة عظيمة جداً لا يوجد نظيرها في البهاء والعظمة، وأن أسقفاً عظيماً، وهو شيخ وقور جداً يلبس ملابسه الكهنوتية ويخدم القداس، تقدَّم إليه يدعوه للصلاة وأعطاه الشورية لكي يبخر كالكهنة. فقال له: "لا، أنا راهب ولستُ كاهناً ولا أقبل ذلك"! فأصرَّ الأسقف على أنه يمسك الشورية ويبخر بها, فامتثل للأمر. ولما عادت نفسه إليه واستيقظ تعجب من هذه الرؤيا! وسنرى أنه بعد رجوعه لدير السريان رسمه أسقف الدير كاهناً بغير إرادته فتحققت الرؤيا.

اشتياقه للتوحُّد وزيارته للأب عبد المسيح الحبشي المتوحِّد:

ظل الأب متى في دير السريان يجاهد في إرشاد الرهبان وأخذ اعترافاتهم بالإضافة إلى مسئوليته عن حديقة الدير (حوالي 40 فداناً)، كما كان في تلك الفترة يكمل كتابة مواضيع كتاب ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ ويقرأ ويدرس في مكتبة الدير الغنية بالكتب والمخطوطات. ومع ذلك فقد أثمرت عشرته للرب اشتياقاً جارفاً إلى حياة التوحد.

ولكنه قبل خروجه إلى الوحدة زار الأب عبد المسيح الحبشي المتوحد ليتعلم ويستلم منه حياة الوحدة وأصولها، وقد روى لنا ذلك بنفسه قائلاً: ”مرةً كنتُ ذاهباً إلى دير البراموس بالليل قاصداً الأب عبد المسيح الحبشي، وكنتُ أحمل مقطفاً فيه بعض الحاجيات. ثم ضللتُ الطريق، وظللتُ سائراً في هذه البرية الشاسعة نحو ست ساعات في ظلام تام، وكنتُ أصعد على التلال العالية لكي أرى شيئاً ولكن بلا فائدة. وأخيراً سلَّمتُ الأمر للرب قائلاً: "يا رب أنت تعلم تعبي وضعفي، فقد تعبتُ كل هذه الساعات بدون فائدة، فتدخَّلْ أنت و?نقذني". وفجأةً، بينما كنتُ أصلّي، رأيتُ نوراً ساطعاً جداً نزل من السماء فجأةً وأضاء دير البراموس كله كأنه في وضح النهار، فحددتُ اتجاه الدير واضعاً أمامي علامات ثابتة على الطريق حتى وصلتُ إليه أخيراً شاكراً الرب الذي أنقذني وممجداً اسمه“.

”ثم قصدتُ مغارة أبينا عبد المسيح الحبشي، فلما رآني قال في الحال بدون تفاهم: "راهب على ديرك"، أي: اذهب إلى ديرك، لأنه كان لا يعرف من اللغة العربية إلاَّ القليل. وأنا كنتُ مجهداً من مدة الست ساعات التي تُهتُ فيها. وأردتُ أن أفهِّمه شيئاً فلم يقبل. ثم دخلتُ مغارته وأخذت أشرب بالكوز من زلعة الماء، ولما ملأت الكوز مرةً أخرى لأنني كنتُ عطشاناً جداً، نظر إليَّ بعدم استحسان وقال لي: "راهب مصري كسورة"، ومعناها "غير منضبط"، لأنه هو كان عنيفاً في نسكه، فكان يشرب بالكيل. وبعد أن شربتُ تمدَّدتُ من التعب على فراشه الخاص، فاندهش من جرأتي وظل يتمتم: "راهب. راهب؟ ماذا تفعل"؟ وبدأت أتفاهم معه وعرَّفتُه أن معي حاجات له في هذا المقطف، وأنني جئتُ لأمكث معه وأخدمه بعض الوقت، فاستراح واطمأنَّ لي“.

”ثم سألني: "ماذا كان عملك قبل الرهبنة"؟ فقلتُ له: "حمَّار (أي أقود حماراً)، وأعرف الطرق في الجبال والصحاري"! فهزَّ رأسه وقال لي: "تنفع"! وظللتُ أخدمه، وبعد فترة جاء بعض الرهبان من دير البراموس ممن يعرفونني، فقالوا للأب عبد المسيح: "خذ بالك منه، فهو كان دكتور". فجاءني موبِّخاً قائلاً: "لماذا كذبت عليَّ؟ أما كنتَ طبيباً"؟ فقلتُ له: "أنا حقاً كنتُ حمَّاراً"، وذلك إمعاناً في إلغاء ذاتي. ثم قال لي: "اعلم أن يسوع هو طبيبنا وهو دواؤنا وهو شفاؤنا". وقد مكثتُ عنده فترة تعلَّمتُ فيها النسك على أصوله“.

كان أبونا الروحي يحب أداء الأعمال الحقيرة التي لا يريد أحد أن يعملها. وهذا مثال على ذلك: فقد كانت توجد مجموعة من القلالي القبو القديمة في دير السريان. ودخلها مرةً الأب متى المسكين فوجدها مملوءةً بالقاذورات ورائحتها كريهة. ففكّر جدِّياً في تنظيفها ليجعلها لائقةً بالقديسين الذين سكنوا فيها. وبالفعل أجهد نفسه مع بعض العمال وأزال أكوام النفايات ونظَّف حوائطها بنفسه، ثم رجع إلى قلايته مسروراً بهذه الخدمة. والله الذي لم ينسَ تعب المحبة أرسل له الآباء الذين سكنوا هذه القلالي ليشكروه، إذ جاءته رؤيا في الليل: ثلاثة رهبان طوال القامة، ويبدو أنهم سريان، ووجوههم مشرقةً مضيئةً، وظلُّوا يعزُّونه ويشكرونه على تعبه ويؤكِّدون له أنهم كانوا يسكنون هذه القلالي منذ زمان طويل، فتعزَّت نفسه جداً.

في مغارته قرب دير السريان:

انطلق الأب متى المسكين إلى مغارة حفرها بنفسه تبعد عن دير السريان بنحو 40 دقيقة مشياً على الأقدام، وكان لا يتجه إلى الدير إلاَّ كل أربعين يوماً لحضور القداس والتناول، ثم يعود إلى سكونه في صمت، واستمر هكذا نحو ثلاث سنوات. وقد ذكر بعض اختباراته في تلك الفترة بقوله: ”عندما كنتُ أعيش متوحداً كنتُ أصلِّي بحرارة، فأبدأ التسبحة الساعة 7 مساءً حتى الساعة 7 صباحاً، فكنتُ أقرأ كل ربع وأهلل وأسجد وأقوم. وهكذا، ثم أَنتقل من الأبصلمودية السنوية إلى الكيهكية دون الالتزام بالتواريخ، فأخذتُ الكثير جداً، ويكفيني أن كل جملة من كتاب ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ - الذي كتبتُه في مستهل حياتي الرهبانية - كانت تشغلني أياماً وشهوراً“.

وكانت حياته في المغارة مكمِّلةً لحياة الرهبنة الأولى، ففي الوحدة المطلقة تحررت روحه من القيود وازداد تعمُّقه جداً في الإحساس بالوجود الإلهي الكلي The Whole Presence، وأدرك علاقة الله بالكون، وأحسَّ بالأبدية (اللازمن), واستنشق روح الله وذاق السرور المفرط في عشرته له، وفهم معنى أن الله واحد, وأنه بسيط وكلِّي القدرة وكلِّي الوجود, وأنه واجب الوجود بذاته. كل هذه التي تُعتبر عوائص في اللاهوت عاشها ووثق منها أكثر من وثوقه من ذاته!

وفي أحد الأيام صلَّى بحرارة أمام الله قائلاً: ”أريد أن أعرفك. أريد أن أدركك. هل يمكن للإنسان أن يدركك يا إلهي؟“ فسمع صوتاً يقول له العبارة التي كتبها فيما بعد عدة مرات في كتاباته: ”الله مُدرَكٌ كاملٌ. ولكن لا يُدرَك كماله“.

-

وبخصوص إحساس المتوحد بالكنيسة وبالعالم، قال أبونا: ”كنتُ في المغارة يوم الأحد دائماً أحسُّ بالكنائس فأصلِّي من أجل كل كنيسة بحرارة وأسجد وأقول: "يا تُرى ما هو حال الكنيسة التي تصلِّي الآن؟ فأذكرها وأعيش في وسط شعبها". وهكذا حتى الساعة 11 صباحاً. وكم كنتُ أحس بالألحان والمردات! فالراهب خارج العالم يزداد إحساسه أكثر بالعالم وكل ما هو في العالم“.

وبخصوص الإنجيل في المغارة قال: ”أنا عشتُ فترات من حياتي في المغارة وحدي لعدة سنوات. ولو سألتني حينئذ: "ماذا يضايقك"؟ لقلتُ لك: "الوقت يجري سريعاً". وكنتُ لا أرى إنساناً إلاَّ كل 40 يوماً عندما أذهب إلى الدير للتناول. وكنتُ أُنظِّف اللمبة الجاز نمرة 5 وأُشعلها وأقرأ أصحاحات كثيرة في الإنجيل. وكنتُ أكتب وأقيِّد الأصحاحات التي قرأتها، وقد بَلَغَت ستين أصحاحاً في الليلة الواحدة. ولما ينفد جاز اللمبة أُعمِّرها مرةً أخرى، فلا أستطيع أن أكُفُّ عن القراءة، وأتأمل وأفرح وأتعزَّى“.

كما أنه قال عن مصالحة الإنسان الروحاني مع الوحوش: ”في مرة كنتُ معتكفاً في المغارة، ولسبب ما كان باب المغارة مفتوحاً، فدخل عليَّ ثعبان كبير، فارتعبتُ في البداية واضطربت وارتبكت جداً. ولكن في هذه اللحظة الحرجة ألهمني الرب سريعاً بهذا الشعور: ألا يُعتبر هذا الوحش أحد خليقة الله؟ فليس له سلطان عليَّ إلاَّ بسماح من الله، وإن كانت إرادة الله تسمح له أن يؤذيني فلتكن إرادته! وبهذا الفكر هدأتُ جداً ودخل فيَّ سلامٌ وعدم خوف قط من هذا الثعبان. وهو بدوره بدأ ينظر إليَّ ويحني رأسه. فقلتُ: أجرِّب وأعطيه قليلاً من الطعام. ومددتُ له يدي ببعض الطعام الذي كان في المغارة، فمدَّ رأسه وأخذ الطعام بهدوء. ومكث في المغارة مدة ما، وعندما كنتُ أريد أن أصلِّي كنتُ أقول له: "اذهب"، فيفهم ويذهب! فكنتُ أتعجب جداً كيف أن هذا الثعبان الذي كنتُ أرهبه منذ قليل هو نفسه يخضع لي ويتصالح معي هكذا!؟ فمجدتُ الله. ذكرتُ لكم هذا الأمر ليس على سبيل الافتخار، لكن لكي أبرهن لكم حقيقة أن الذي يتصالح مع الله والناس يستطيع أن يتصالح حتى مع الوحوش“!

وفي مرة أخرى وجد ثعباناً في مغارته وكان مسالماً، فقال له: "إنني لن أقتلك إذا عشتَ معي حسب المعاهدة التي أبرمها معك: "احذر من أن تظهر عندما يأتي إليَّ أحد الرهبان لئلاّ يخاف منك، وإذا كسرت هذه المعاهدة فسأقتلك". وبالفعل ظل ساكناً مدة في عتبة المغارة. ولكن حدث أنه نقض المعاهدة وظهر لأحد الرهبان الذي فزع منه، فاضطر أبونا أن يقتله خوفاً من الخيانة!

وحدث مرةً أن ضبعاً شرساً نزل إلى وادي النطرون، واضطر مركز البوليس إلى تحذير أهالي الوادي والأديرة من الخروج بعد الغروب. وفي ليلة اقترب الضبع من مغارة أبينا متى، ربما لأنه اشتمَّ رائحة فروة الخروف التي كانت في المغارة. وابتدأ يخدش الباب بأظافره، فأحسَّ أبونا بالخطر، لأن هذا الوحش لو أراد أن يكسر باب المغارة فلن يكلِّفه ذلك إلاّ ضربةً واحدةً من يده الكبيرة! فأسرع ليأتي بسكينة كبيرة وقضيب من الحديد ووقف وراء الباب الخشبي الضعيف المزمع أن يكسره الوحش. وحينئذ نخسه ضميره وقال في نفسه: ”هل أنت الذي ستنقذ نفسك؟ وهل السكينة والحديدة أكثر أماناً من يد الرب الذي خرجتَ إلى البرية من أجله؟! فألقى بالسكينة وقضيب الحديد وهو خجل، ثم ركع وصلَّى، ثم نام في سلام. وفي الصباح وجد آثار أرجل الضبع حول المغارة تشير إلى كبر حجمه، إذ أنه انصرف طبعاً بقوة الله“.

وحدث مرةً وهو في مغارته بجوار دير السريان أن علم بانتقال الأرشيدياكون حبيب جرجس دون أن يذكر له أحد ذلك، وكان يحبُّه ويقدِّره جداً، وكان قبل توجُّهه للرهبنة قد ذهب مع الدكتور وهيب عطا لله (المتنيح نيافة أنبا غريغوريوس) إلى الأرشيدياكون حبيب جرجس لأخذ بركته ونصائحه قبل الرهبنة، فلما تنيَّح رأى أبونا روحه تحف بها ملائكة وقديسون وهم يزفونها إلى السماء، ثم علم بعد ذلك بالخبر وعرف أن هذه الرؤيا حدثت في اليوم الثالث من نياحته.

انتدابه وكيلاً للبابا في الإسكندرية

ذكرت مجلة مدارس الأحد خدمة أبينا الروحي في الإسكندرية هكذا:

تبدأ القصة في مارس 1954، حينما طلب شعب الإسكندرية من البطريرك (الأنبا يوساب الثاني) تعيين وكيل للبطريركية هناك، وهو أعلى منصب كنسي في الإسكندرية (بعد منصب البابا طبعاً). فقد طلب أعضاء المجلس الملّي السكندري أن يكون الوكيل أحد أربعة رهبان تقدموا بأسمائهم إليه، فاختار القمص متى المسكين. ولكن القمص متى راهب يحافظ على قواعد الرهبنة التي تمنع الراهب من مغادرة ديره. فقد ترهب لكي يعيش حياة النسك والعبادة والتأمل، وظل متوحداً في مغارة قريبة من الدير عدة سنوات، وكان أحد ثمارها كتاباً يُعدُّ من أعمق الكتب الروحية وأقواها وأروعها هو كتاب ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“. فكيف يمكنه أن يخرج من ديره إلى العالم؟ فرفض أن يتولى هذا المنصب.

أما البابا يوساب الثاني فقد أصرَّ على تعيين القمص متى، فأمر أنبا ثيئوفيلس أسقف الدير أن يحضر القمص متى بالأمر. فاضطر أن ينفذ لأن الراهب يجب أن يُطيع رئيسه.

ويقول الأب كيرلس المقاري مكمِّلاً القصة: ”وبناءً على طلب البابا ذهب أبونا متى لمقابلته، وكان يريد أن يرفض تولي تلك المسئولية، ولكن البابا أصرَّ على ذلك. ثم سأله البابا: "من أي بلد أنت يا أبونا متى"؟ فأجاب: "أنا من دير السريان يا سيدنا"! فقال له: "أنا أعلم ذلك يا ابني، ولكنني أسأل عن بلدك الأصلية". فأجاب قائلاً: "أنا من دير السريان يا سيدنا"! فتضايق البابا لأنه لا يريد أن يذكر بلده، وقال أبونا في نفسه: "هل يا تُرى هو يسأل لأننا ربما نطلع أقارب؟ إن الراهب لا تهمه القرابة الجسدية". ولكن البابا كان ذكياً, ففهم قصده أنه يريد أن يرجع إلى وحدته. ثم سأله: يقولون عنك إنك من بتوع الأحد (يقصد من خدام مدارس الأحد، لأن رجال الكهنوت في ذلك الوقت كانوا يعتبرون أن مدارس الأحد هي حزب داخل الكنيسة!). فأجاب الأب متى: "يا سيدنا أنا راهب في الكنيسة القبطية". ثم قال له: "يقولون إنك تعرف سبع لغات". فقال: "لا يا سيدنا، هذا كلام غير صحيح"!

فابتدأ البابا يتلاطف معه وقال له: "إننا سنرسلك وكيلاً عنا في الإسكندرية". فأجابه: "أنا راهب مبتدئ ولا أصلح لذلك"! فقال له البابا: "يا ابني، لا تقل إنّي ولد، بل سنرسلك وكيلاً عنا"! وهكذا جاء القمص متى المسكين إلى الإسكندرية. وقد تقرر أن يصحبه أنبا أثناسيوس مطران بني سويف الأسبق وأنبا ثيئوفيلس أسقف دير السريان لكي يقدماه إلى شعب الإسكندرية. وما أن وصل القطار الذي يقلُّهم حتى خرج حشد من الأقباط لاستقباله في المحطة واصطحبوه جميعاً إلى دار البطريركية حتى ارتجت المدينة كلها وجاء رجال الأمن لحفظ النظام!! وكان قدس أبينا متى مذهولاً ومرعوباً من منظر الجماهير! ولما دخلوا الكنيسة أقاموا صلاة عشية، وقد طالب الشعب أن يسمع صوت القمص متى المسكين، فسُمح له بقراءة إنجيل العشية، فقرأه بتذلُّل ومخافة عظيمة. وظل الكثيرون زماناً طويلاً يتذكرون كيف تأثر الشعب جداً من طريقته المؤثّرة في قراءة الإنجيل!“

ويذكر أحد رهبان دير أنبا مقار أنه كان قبل رهبنته يعيش في الإسكندرية في ذلك الوقت، ويقول إن بطريركية الإسكندرية وزعت بطاقات دعوة للأراخنة والخدام لحضور حفل استقبال الأب متى في الكاتدرائية المرقسية. وبعد أن قدمه المطران والأسقف اللذان اصطحباه لشعب الإسكندرية بكلمة ترحيب، وقف أبونا متى وقال كلمة قوية لا يذكر منها سوى جملةً واحدةً هي: ”ما كنتُ أريد أن أترك الدير، ولكنني شعرتُ بدعوة إلهية لهذه الخدمة. ومعروف أن الخَدّام يخدم أولاد سِيدُه كما يخدم سِيدُه تماماً. وأنتم أولاد سِيدِي“!! هذه هي الروح التي بدأ يخدم بها شعب الله!

ويُضيف راوي هذه القصة أيضاً قائلاً: لقد سررنا للغاية عندما علمنا أنه هو مؤلف كتاب ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ الطبعة الأولى (التي صدرت باسم دير السريان عام 1952دون ذكر اسمه، ثم صدرت طبعة جديدة مزيدة عام 1968).

في دير الأنبا صموئيل:

”عند مجيء الرهبان مع الأب الروحي إلى دير أنبا صموئيل كانوا لا يملكون شيئاً، ولما شرعوا في البناء التجأوا إلى الله بالصلاة لكي يمد يده ويعمِّر مواضع قديسيه ويحث القلوب للمساهمة في ذلك، وكان الله يستجيب بطرق عجيبة. وكان أبونا يجمعنا لنصلِّي لكي يرسل الرب معونته، وكانت استجابة الله بطرق جعلت الآباء يختبرون الله عن قرب كأب حنون يرعى شئونهم ويسدد كل احتياجاتهم الروحية والمادية. ورغم كثرة العمال فقد كان الله يرسل احتياجاتهم وأجورهم، وكانت تأتي القافلة بكل احتياجاتنا وأكثر، وهذا في ذاته كان أمراً عجيباً، فكل قافلة كانت لها قصة عجيبة!

وعلى سبيل المثال حدث مرةً أن الشاي انتهى من الدير، ولما طلب العمال شاياً ولم يجدوا قالوا لأبينا الروحي: "كيف نعيش بدون شاي"؟ فقال لهم بإيمان: "هل معقول أن الشاي انتهى؟ إن الشاي الذي في قلايتي مَنْ يقف عليه يرى "الزورة" (التي تبعد بحوالي 10 ساعات سفر من الدير)". فأخذوا كلامه بإيمان وثقة وفرحوا. وفي نفس الليلة جاءت القافلة وفيها شاي وسكر بكثرة، وإن كان العمال لم يعرفوا مصدره، ولكنهم كانوا متيقنين أنه من عند أبينا الروحي الذي حقق الله كلمته ليكون صادقاً أمام العمال“!

”وعلى هذا المستوى أيضاً كانت تصل الأموال لأجور العمال وتكاليف البناء. وقد حدث مرةً أن العمال طلبوا أجورهم لكي يسافروا إلى بلادهم ويعولوا أُسَرِهم، فأرسل مَنْ يبحث عن نقود لهم فتأخر عشرة أيام، فجمعنا أبونا وأخبرنا عن الأمر بصراحة حتى نحمل معه هذا الهمَّ, لكي نرى عمل الله. فكنا نخرج إلى الجبل ونصرخ متوسلين حتى لا ننفضح أمام العمال الذين يعملون في بناء بيت الرب. وعند الغروب وجدنا عربة جيب قد جاءت بالأحباء من الإسكندرية: الأستاذ عريان اسكندر والدكتور تادرس ميخائيل والمرحوم رشدي خليل، جاءوا بإلهام إلهي وسدَّدوا كل أجور العمال! وهكذا كان الدير يُبنَى بسلسلة من أعمال العناية الإلهية مما يفوق الوصف والحصر! والحقيقة إن قصة بناء القلالي بالقبو والأسمنت تحتاج إلى كتاب كامل“!

صلاة الأب متى المسكين من وسط المحنة:

وما أنسب أن نختم تلك الفصول بصلاة أبينا الروحي أثناء الضيقات التي تعرَّضوا لها في دير السريان قبل خروجهم الأول من الدير، وذلك في معرض حديث له مع أبنائه الرهبان عن صلاة نحميا التذللية المنسحقة (نح 5:1-11)، إذ ختم تأمله بهذه الصلاة حيث تضرَّع قائلاً:

[لتكن أذناك مُصْغِيتَين وعيناك مفتوحتين لتسمع صلاة عبدك الذي يصلِّي إليك الآن نهاراً وليلاً لأجل كنيستك الجريحة يا رب. لتكن المحبة التي أظهرْت‍ها على الصليب هي رجاءنا في ضيقاتنا ومرشدنا إليك لكي نتوب, ونرجع عن آثامنا يا رب. إلى مَنْ نذهب يا سيد، إلى من نلتجئ ؟!!

يا ليت رأسي ماء وعينيَّ ينبوع دموع فأبكي نهاراً وليلاً قَتْلَى بنت شعبي! يا رب، انظر من السماء وتطلَّع إلى هذه الكرمة التي غرسَتْها يمينك.

يا رب، أشفق على الرعية فإن الذئاب قاربت على إفنائها.

يا رب، إن البار قد فني والمستقيمون قد أُبيدوا في وسط الأرض.

إلى متى يا رب تنسى هذا الشعب الحزين التعيس؟! ألعلنا، يا رب، نلنا كل هذا لأنه قد دُعيَ اسمك علينا؟! ألعلنا، يا رب، نتحمَّل كل ذلك لأننا أولادك؟!

لا, لا يا سيد، لابدَّ من تمجيد اسمك وسط أولادك. يا رب، إننا نريد أن نحمل من أجل اسمك الآلام والعار، ولكن لابدَّ من القيامة والانتصار معك! اصنع معنا، يا رب، آيةً صالحةً ليرى ذلك مبغضونا فيخزوا، لئلاَّ يقول الأعداء إنه ليس له خلاص بإلهه.

قم يا رب لماذا تنام؟! ألستَ أنت يا رب الذي كنتَ تشفق على شعب إسرائيل بعد كل توبة فترجع عن غضبك وترفع عنهم خزي الأعداء؟! ألستَ أنت يا رب الذي قبلتَ المرأة الخاطئة النجسة وجعلتها من أخصائك ولم تذكر خطاياها؟! ألستَ أنت الذي اقتنيتَ بين تلاميذك عشاراً مكروهاً من جميع الناس ووهبته كل أسرار السماء؟!

إذن، يا رب، فإن خطايانا مهما عظمت لا يمكن أن تعطل فيض محبتك لنا، آمين].

صلاة احتمال الضيقة:

وفي موضع آخر عبَّر أبونا عن كيفية اجتيازه لهذه الضيقة من خلال صلاته التي كان يُناجي فيها الرب من فوق جبل وادي الريان، فقد سلَّم نفسه وباعها للرب حتى الموت إذ يقول: ”كان يوماً من ألذِّ وأجمل أيام حياتي، إذ مكثتُ طول النهار فوق الجبل أبيع نفسي للمسيح، إذ قلتُ له بالضبط:

[انظر يا رب، لو قامت الدنيا ضدِّي فعيبٌ عليَّ إن دافعتُ عن نفسي. إذا رفعوا عليَّ قضية في المحكمة وقالوا: أنت تستحق كيت وكيت حتى الموت، فعيبٌ عليَّ إن دافعتُ عن نفسي أو حتى اشتكيت! إن أدخلتَني في الآلام حتى الموت ودخلت المسامير في يديَّ ورجليَّ أو الحربة في قلبي، فعيبٌ عليَّ إن صرختُ أو تأوَّهتُ أو طلبتُ العِوَضَ أو اشتكيت ...". هذا بيعٌ من كل نوع. قلتُ له: "صحيح أنت اشتريتني على الصليب، ولكنني أبيع لك نفسي اليوم"! فما أجملها حياة في المسيح! ما أجملها صفقة للبيع والشراء بينه وبيننا! هو اشترانا ونحن نبيع له أنفسنا وكل ما نملك حتى الموت. إننا نستسلم حتى الموت ولا نتأوَّه وذلك من أجل يسوع].

وعن مشاعر المحبة نحو الذين اضطهدوه قال: ”بقلبي الهادئ المحب ونفسي الوديعة التي لا تحتمل الحقد احتملتُهم بصبر. السلاح كله في أيديهم، ولكنني أنا لم أحمل في حياتي شعوراً بالقساوة على إنسان، بل إن أشرَّ أعدائي أَحتضنه كابن لأبي وأُمِّي مهما عمل فيَّ ذلك الإنسان. وهذه عطية لي من الله“.

وفي إحدى رسائله يعبِّر عن كيف استطاع أن يقبل هذه الضيقة:

[كنا متضايقين جداً فيما سبق من الضيقات التي أصابتنا، ولم نكن ندري أن النعمة كانت هي التي تدفعنا إلى ذلك دفعاً, فكنا نرى، خطأً، أن مهاجمات بعض الناس لنا تتلف أنفسنا أو تتلف سعينا أو تعوِّق سيرنا، فكنا نخرج عن صوابنا وننظر أعداءً لنا ممعنين في العداوة، فكانت الضربات تتخذ في بدايتها عنفاً وشدَّة يُطيحان بالتفكير المتزن، فنظل زمناً في حالة غير مثمرة روحياً، جانحين إلى الشك المخيف من الناس ومن أنفسنا ومن هول الطريق. وكان هذا هو غاية ما يتمناه عدونا المنظور وغير المنظور. ولكن كانت النعمة ساهرةً علينا كما يسهر الطبيب على المريض الذي برَّح به الميكروب العنيد!]

[وكان العلاج الذي قدمه لنا الله - وهو آخر ما يُقدَّم لنا – هو أنه دفعنا إلى ضيقة أشدّ! فتركنا نتضايق إلى أقصى ما يمكن أن تكون الضيقة إلى الحدِّ الذي بعده لا تُسمَّى ضيقةً بل موتاً! إلى أن انكشف للوعي الإلهي فينا أخيراً، وفي لمحة الروح، خطة العدو التي كانت كامنة في أعماقنا والتي من أجلها تَرَكَنا الربُّ نتضايق كثيراً، إذ اكتشفنا على ضوء التجربة العظمى، وبمعونة نور الله، ما كان مدفوناً فينا من بغضة وغضب وحقد وعداوة، وتحققنا، في نور عدل الله، أن هذه البلوى متعادلة تماماً مع ما فينا ككميتين متعادلتين، وكلا الكميتين يتساويان مع الموت الأبدي وهلاك الروح. فكانت لحظة الاكتشاف لحظة رعب إذ تحققنا أننا ضائعون ورأينا الموت والهاوية. وفي رعبنا استيقظ الإيمان فجأة، فصرخنا من كل كياننا، فكان لطف الله وكان العبور. وكان عبورنا شاقاً مريراً، إذ لما اكتشفنا ما في نفوسنا, صرنا غير راضين عن أنفسنا، بل إننا كنا لائمين لها بل ومؤنِّبين بشدَّة. وصرنا في عداوة مرَّة ونزاع مع أنفسنا، فجحدناها جحداً وأنكرناها إنكاراً وتبرَّأنا منها أمام الله! إذ بدت لنا وكأنها خدعتنا العمر كله. وقد ذُهلنا لما وجدناها تتمرَّغ في الحقد وتتنمَّر في الانتقام وتستريح على تصورات الشر وإفساد المعادين لنا، فعلمنا أن العدو الشرير أصاب منا مقتلاً، بل أحسسنا أننا مقتولون، ورأينا بعين النفس أبواب الهاوية مفتوحة والشيطان يستعد لابتلاعنا!!

[لقد تيقظ الوعي الروحي فجأةً في هذه اللحظة المرعبة، ورأينا أنفسنا في شبكة الموت، وأدركنا بحسرة وشبه يأس مهارة عدونا الخفي، كيف أحكم الأقفال منذ زمن بعيد، فوقفنا لحظةً في حيرة مُرَّة هي حيرة الموت. وكالفأر الذي ضُبط في مصيدة قاسية يخبط رأسه في كل قضيب منها؛ هكذا كنا حتى أصابنا الدوار، وعبثاً حاولنا الإفلات لأننا كنا نريد أن نفلت بأنفسنا منها! ومصيدة الدنيا قاسية تُطبق على النفس ولا تتركها، إنها مُحكَمَة لا تُكسَر قط ولا يُفتَح بابها، وكل النفوس التي تقع فيها كُتب عليها الضياع إلى الأبد! لقد نسجت قضبانها حولنا سنوات عديدة هي عمرنا كله، وقضبانها هي من الإنسان ذاته وفي جسده مغروسة فكيف الإفلات؟ ولكن بالإيمان صرخنا، والإيمان يفوق الدنيا ويفوق الجسد. لقد عبرنا المصيدة لما جحدنا النفس وعبرنا فوق أحاسيس الجسد وشهوات الدنيا].

وفي إحدى رسائله للرهبان كان أبونا يحث الرهبان على محبة الأعداء والمسيئين إليهم, ومن واقع خبرته:

[لقد وضعوا خطةً محكمةً لكي يُسكتوا فمي، ولكن لا أظن أنهم سيقدرون، لأن الذي يتكلم فيَّ هو الآن يتكلم فيكم وفي كثيرين. أنا لم أُسئ إلى أحد منهم والله شاهدٌ، ولذلك فكل إساءة منهم نحوي ستُحسب لي نعمة، فليتهم يزيدون! في وحدتي وعزلتي عن العالم والناس والخدمة والآباء والإخوة، سوف أمضي في خدمة كنيستي حتى آخر نسمة في حياتي! لا ترتاعوا إذا أحاط بكم الشر من كل جانب، لأن الحق في داخلكم و«الذي فيكم أعظم من الذي في العالم» (1يو4: 4). ولكن الذي لا يعلن الحق في وقته يطغى عليه الشر ويضيع منه الحق. لذلك فإن هذا الزمان هو زمان الحق، ولزمان الضيق ادَّخرنا المعرفة والحق والصلاة].

وفي رسالة لأحد أبنائه يقول: ”المحبة نار ممحِّصة، معلِّم صاحٍ، مؤدِّب لا يشفق، إلهام كشَّاف يفضح المستور ويؤنب في الخفاء. ما وجدتُ في حياتي قوة ردَّتني عن جهالتي أعظم من المحبة، وما عرفتُ مؤنباً لا يرحم تفاهتي ولا يستجيز قُبحي ولا يتهاون برذالتي سوى المحبة. المحبة عندي لها جرأة أشد سطوةً على ضميري من نار جهنم! وأخاف وأرتعب من أصبع المحبة حينما يشير إلى نتانة في العلاقة أو إسفاف غير معقول بالآخرين مهما كان قبح موقفهم «المحبة لا تقبِّح»، وكأن المحبة لا تريد منا إلاّ أن نظهر كأولاد تلك المحبة (أي الله) الذين لا يعملون ولا يفكرون إلاّ بطقس أبيهم وسلالة بيتهم“.

الاعتكاف للصلاة طيلة أسبوع الآلام:

وعن حياتهم في وادي الريان (1961-1969)، يقول الأب كيرلس: ”كانت عادتنا في الصوم الكبير أن نعتكف تماماً ولا نجتمع مرة أخرى إلاَّ في يوم سبت لعازر، وأحياناً كنا نقيم قداساً يوم الأحد لكي نتناول. وكان أبونا يدعونا أحياناً إلى عمل مشترك نحتاج إليه للضرورة، ثم يكلمنا في أثنائه في أمور روحية. وعندما كنا نسمع الكلام الروحي من أبينا الروحي أثناء العمل, كنا نحس بالفرح والتعزية، لأنه كان دائماً يربط العمل الجسدي بالعمل الروحي. وهكذا كانت هذه الأيام أجمل أيام الرهبنة. وكل عمل مهما كان شاقاً كنا نعتبره عملاً رهبانياً ونشعر فيه بمؤازرة من النعمة الإلهية. وكانت العربة تأتي إلينا كل شهر أو شهرين لأجل الاحتياجات الضرورية, ولم يكن يأتي مع السائق أحد إلا شخص يعرفه أبونا شخصياً وكان أبونا هو الذي يحدده بالاسم. فالذين كنا نراهم كانوا يُعدون على الأصابع. لأن أبانا أراد أن يوفر لنا هدوء البرية الحقيقي لكي تنطلق الروح بلا عائق، ونتفرغ لكشف أخطائنا وضعفاتنا فنعمل على إصلاحها، وبعد ذلك يحدث نمونا الروحي ونختبر عناية الله بنا.

وفي كل يوم كانت توجيهات الأب الروحي بكلام روحي يصحح لنا المسيرة وينير لنا الطريق. وكنا نحاول تسجيل كلام أبينا الروحي كتابةً لأنه لم يكن لدينا مُسجِّل، فلم نحصل عليه إلاَّ في أواخر أيامنا بالريان، فكنا بعد رجوعنا المغارة نكتب ما نسمعه وكان ذلك يثبِّت المعرفة الروحية. وظللنا هكذا حتى حصلنا على ريكوردر، فابتدأنا نحفظ الألحان ونسجل عليه أقوال أبينا الروحي التي هي معظم التأملات التي كان يقولها والتي صدرت بعد ذلك في كتب.

وكثير من كتابات أبينا الروحي الهامة صدرت في تلك الظروف الصعبة عندما كان أبونا يبني حائطاً أو يلطخ شيئاً (بالطين) أو يزرع. فكنا في وسط العمل نجلس بعض الوقت، فيُحدِّثنا، ثم يرجع هو لمغارته ليستريح قليلاً ثم يسجِّل هذه التأملات كتابةً فتُطبع في كتب روحية مثل: "الكنيسة والدولة"، "كلمة الله", "لقد وجدنا يسوع", "القديس أنطونيوس ناسك إنجيلي", "رأي في تحديد النسل". وفي هذه الفترة صدرت الطبعة الثانية لكتاب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“. كل هذه الكتب التي خرجت من وادي الريان كُتبت في ظروف العمل القاسية. فقد كان أبونا يعمل معنا طوال اليوم, وبعد ذلك يسهر على اللمبة الجاز نمرة 5 لكي يدون هذه الكتابات، فكنا نشعر كأننا نحلِّق في السماء رغم إحساسنا الحقيقي بأننا لسنا أهلاً أن نكون متوحدين، ولكن الله تمجد في ضعفنا وأعطانا روح الثبات.

”وذات مرة فكَّر أبونا أن يبني غرفاً أمام المغائر لأن الرطوبة فيها كانت عالية، لأنها منحوتة في الجبل. فقال: "نبني غرفة أمام كل مغارة لنرى هل تنفع أم لا". فابتدأ بغرفة واحدة أمام إحدى المغائر وهيَّأها وقال إنها ربما تنفع أحد الآباء. وهكذا قضينا كل أيامنا في الريان في محبة عالية“.

اعتكاف للصلاة، ثم الدعوة من البابا كيرلس للتوجُّه لدير القديس أنبا مقار:

"إن أبانا الروحي مكث في الريان حوالي أربع سنوات كاملة معتمداً على الخضروات البسيطة في حديقة الوادي، والمياه التي تأتي من الريف مع قافلة الجمال كل شهر تقريباً على قدر احتياج الآباء الذين ساءت صحة أمعائهم، ولاسيما أبونا الروحي والأبوان إشعياء (المتنيح) وكيرلس أطال الله حياته. ولكن حدث في أحد أيام شهر أكتوبر سنة 1968م، أن ذهب الأستاذ عريان اسكندر إلى وادي الريان - وكانت هذه هي ثاني زيارة له - وعرض على أبينا الروحي أن يذهب إلى الإسكندرية لقضاء فترة استجمام واسترجاع عافيته. وبالفعل نزل معه وأقام بالإسكندرية في شقة خالية خاصة بأسرة أحد الآباء لمدة شهرين وكان يخدمه أحد الإخوة ببيت التكريس، الذي كان أبونا يصرفه صباحاً حيث لا يعود إليه إلا بعد الظهر، بينما يقضي أبونا النهار وحده وهو يصلي بصراخ ويتوسل إلى الله. ولم يعرف أحد في الإسكندرية بوجوده هناك. ثم عاد بعد ذلك إلى بيت التكريس بحلوان. ثم عاد قدسه إلى وادي الريان قبل أسبوع الآلام سنة 1969م. وبعد أن عيَّدنا عيد القيامة نزل ثانيةً إلى بيت التكريس بحلوان للعلاج. وهناك بدأت اتصالات قدس الأب القمص صليب سوريال بقدس أبينا الروحي ليبلِّغه رغبة الأب البطريرك في نزول الجماعة من وادي الريان إلى أي دير يختارونه“.

دخول دير القديس أنبا مقار:

تتابع وصول الآباء إلى القاهرة طيلة مساء وليل الجمعة 9 مايو، ثم توجهوا في الحال إلى الكاتدرائية المرقسية في الأزبكية. وكان هو يوم أول بشنس (9مايو) عيد ميلاد السيدة العذراء وتذكار جلوس البابا كيرلس السادس. ففرح بنا البابا، وبعد القداس غيَّر لنا الشكل الرهباني لكي نكون مقاريين بعد أن كنا مرسومين على دير السيدة العذراء - السريان“. وبعد ذلك ذهبنا لكي نرى الدير، فوجدنا أنه عبارة عن أطلال، والرمال محيطة به، كانت حالة دير أنبا مقار سيئة جداً. فبالإضافة إلى الرمال المحيطة بأسواره كانت الأسوار والقلالي مليئة بالشقوق والكنائس متداعية وبها شروخ. ومن يدخل الدير كان يشعر بكآبة وحزن لأن القلالي مهجورة, ولا توجد أماكن صالحة للسكنى! وقد ذكر لنا أبونا أنه لم تكن في نيته تعمير الدير، لكنه غيَّر رأيه. ولكن قلب أبينا الروحي امتلأ بالغيرة، فلم يَطِق أن يرى بيت الرب مهدَّماً، فجمع الرهبان وقال لهم: "نحن جئنا لكي نتوحد ونستقر ونرتاح من شقاء وتعب الريان، ولكن الرب وضع علينا أن نعمِّر بيته، فهل توافقونني على أن أضع يدي في أيديكم ونعمِّر هذا الدير الخَرِب، ثم نعود إلى هدوئنا ووحدتنا"؟ فوافق الجميع غير أن اثنين توحدا في مغارتين خارج الدير.

بداية العمل: إزالة الرمال من حول أسوار الدير ، ثم بناء الدير :

لكي نبدأ في العمل، كان لابدَّ من إزالة الرمال التي غطت أسوار الدير وزحفت على الدير، وكانت عملية شاقة جداً. وعندما أراد أبونا الروحي أن يوسع مساحة الدير سأل نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير, فقال له نيافته إن الدير كان زمان كبيراً جداً، وإنه يمكنكم التوسيع بقدر ما تستطيعون من كل الجهات. وهكذا بدأت يد الله تعمل في تعمير دير القديس أنبا مقار على يد هذه المجموعة الصغيرة من الرهبان بطاقتها الضعيفة التي خرجت بها من وادي الريان، حسب تعبير أبينا الروحي نفسه:

[الله الذي قال أن يُشرق نورٌ من ظلمة، هو الذي كان ولا يزال يُشرق على الكنيسة القبطية وفي قلوب أولادها على ممر الدهور وفي أحلك أوقات الظلام، حتى تبقى دياراتها مشيَّدةً وعامرةً شهادةً أبديةً لحياة قديسيها وشهدائها الذين قادوا الحياة التقوية والنسكية الإنجيلية في العالم كله!]

[وكنتُ أكتب خطابات للرهبان قائلاً لهم: انتبهوا يا آبائي، فإن أسوار الدير ترتفع بالصلاة وليس بالمال. فلا تصدقوا أبداً أن المباني سترتفع كل يوم شبراً أو اثنين بالحجر والمونة، بل إنها ترتفع بالصلاة فقط، ولو توقفتم عن الصلاة فلو جاء لكم مال قارون فلن يقوم الجدار سنتيمتراً واحداً].

أساس التصميم الجديد لبناء قلاية (مسكن) الراهب، تسهيل التوحُّد للصلاة:

اهتممنا جداً بعدم تلاصق القلالي ببعضها، وزيادة المادة العازلة للصوت، حتى يتوفر للراهب الاستقلال الذي تستوجبه العبادة والصلاة والحياة الداخلية بحسب روح الإنجيل.

كما أن أبانا الروحي كان يُعاني من عدم حريته في الصلاة بسبب تقارب القلالي بعضها من بعض والتصاقها أحياناً بالمضيفة، وفي دير أنبا صموئيل كان الرهبان يسمعون صلاته لوجود شقوق في جدران القلاية. لذلك فقد وضع كل ذلك في اعتباره عند بناء دير أنبا مقار حتى لا يُعاني الرهبان ما عاناه هو.

اقتر ان العمل بالصلاة :

ذكر أبونا مغزى اقتران العمل بالصلاة لما سأله راهبان أجنبيان: ”كيف أعيش الصلاة الدائمة أثناء العمل الذي أمارسه لأجل الطاعة“؟ فأجاب:

* ”في الحقيقة نحن اختبرنا ذلك بأقوى صورة، لأننا نعمل 12 ساعة يومياً. لقد اختبرتُ الوحدة في مغارة مدة 7 سنوات دون أن تُشغلني ولا حتى عصفورة واحدة، ثم وضع الله عليَّ مسئولية رهبان مع مسئولية مادية تفوق إمكانياتي وصحتي وأعصابي، وكنتُ أعود إلى قلايتي لكي أنام كما أنا، ولكن الروح كان قد عوَّدني أن أطيعه، فيقول لي: خمس دقائق فقط اغسل فيها وجهك وقدميك. فأفعل ذلك ثم أقف للصلاة فأجد أن الجسد المتعب قد صار ناراً مشتعلةً ودموعاً لمدة ساعة أو ساعتين، ثم أشعر بالتعب فأجلس, وتظل الصلاة مستمرة، وحتى لو نعستُ أجد أن الصلاة مستمرة حتى الصباح“(3). لذلك فقد كان يوصي الرهبان أنهم مثل نحميا في العهد القديم «باليد الواحدة يعملون العمل وبالأخرى يمسكون السلاح» (نح 17:4)، أما سلاحنا فهو سلاح الصلاة والهذيذ في كلمة الله، أي سلاح الروح.

دور العمل مع الصلاة في التدبير الرهباني، كما مارسه أبونا الروحي مع الرهبان:

*

كان أبونا الروحي يعتبر أن نجاح العمل متوقفٌ على الصلاة، فيقول: ”الراهب غير الحار روحياً في القلاية يكون عمله فاشلاً، والعمل الجسداني يكون دائماً بالنسبة له ثقيلاً, ويسبب مشاجرات لأي سبب. والروحاني لا يكون أنانياً أبداً. والحرارة الروحية تُصلح الجسديات وتجعل العمل الجسدي مثمراً. وأوفق معنى هنا هو: الحرارة الروحية توحِّد“.

*

”اليوم الذي تجد فيه حرارتك الروحية ضعيفة, وقد بردت الصلاة في قلبك, وسلامك الداخلي تبدَّد، احذر ثم احذر من أن تمسك عملاً عاماً أو أن تُعطي أوامر أو نصائح للآخرين، لأنها ستكون عديمة القوة عديمة النعمة. والشيطان يستطيع أن يتكلم بفمك بسهولة في هذا اليوم، ويُسقطك في محظورات كثيرة. في هذا اليوم إلزم الصمت والحزن على نفسك جاعلاً خطاياك أمام عينيك طول النهار“.

*

”الحارُّ بالروح في الكنيسة وفي القلاية، هو حارٌّ في العمل أيضاً، ولا يغضب من أجل عامل أو عمل. فالعمل يصير فقط مصدر غضب وشقاق وأنانية بسبب الفتور الروحي الذي يُصيب الآباء بسبب عدم الطاعة. فعندما أقول مثلاً: راحة كل أسبوع، فأنا أقول ذلك مندوباً عن المسيح حتى لا يوجد شر وأنانية وتعب ولا يصبح النير ثقيلاً لا يُطاق، لأن العمل أصلاً كان عقوبة، فقد كان آدم قبل السقوط لا يعمل هذا العمل المجهد، ولكن بسبب الخطية صارت الأرض تُخرج شوكاً وحسكاً وصار الإنسان يأكل خبزه بعرق الجبين. أما إذا تصالح الإنسان مع الله يصير كآدم قبل السقوط، بأقل جهد يكون له إنتاج والخليقة تُطيعه“.

العمل والصلاة وحدة واحدة:

*

”الجمال هو أن يكون العمل والصلاة وحدة واحدة. ما أهمية العمل؟ فحتى ولو فسد, فالمهم أنك أنت ستنجح. لكنني واثقٌ أنك إن كنتَ عابداً وفرحاً وحاراً، فحتى لو تهاونت في شيء رغماً عنك، فإن العمل ينجح! كما نصلِّي في المزمور: «الأرض أعطت ثمرتها فليباركنا الله إلهنا» (من مزامير صلاة باكر: مزمور 6:66 (حسب السبعينية)). هذا هو مزمور الفرح الذي أرتل به في العمل. وبعدما أتعب أرتل للرب في القلب: "نعود بالفرح حاملين أغمارنا"، هذا هو عزاؤنا، فالشغل الجسدي يكون على أساس الملء والفرح الروحي، وإذا لم يوجد الفرح والسلام تُهين وتفضح نفسَك، إذ تكون معبساً مغموماً متضايقاً. عندما يكون هذا حالك, قِفْ تحت شجرة أو اذهب إلى قلايتك وارفع يديك وأنت تذوق القوة, كما فعل موسى النبي عندما كان يدعِّم يديه اثنان يرفعانها ويسندانها. إننا محتاجون إلى تدعيم الروح القدس، وهو الذي يدعِّم يدك. إذاً، فارفع يدك وأغلق فمك وأنت ترى“!

*

”رفع اليدين نحو السماء يحرِّك ليس الأرض بل السماء. ارفعوا أيديكم إلى فوق إلى رب السماء يأتيكم العون «رفعتُ عينيَّ ... من حيث يأتي عوني» (مز 1:121). العمل الروحي يجعل العمل الجسدي تسبيحاً صامتاً يمجد المسيح ويعلن عنه. المسيح يتمجد عندما ينطق العمل بالصلاة والمحبة. يقول الناس: إننا في كل مكان في الدير نرى ربنا. لماذا؟ لأن العمل قد تم بالمحبة. كنا نعمل ونحن متعبون، ولكننا كنا نصلِّي، فخرجت التسبحة ولصقت بالحجر والشجر، فأعلنت هذه أيضاً مجد المسيح“!

خبرة أبينا الروحي للرهبان:

وصية الصلاة بلا ملل وسط العمل الشاق:

*

أما خبرة أبينا الروحي عن الصلاة بلا ملل وفي وسط العمل وبعده؛ فقد شرحها لبعض الضيوف (في يونيو 1977) بحضور بعض الرهبان الذين دوَّنوا كلامه حيث قال: ”كنتُ في بداية رهبنتي أقرأ كثيراً هذه الآية: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُملّ» (لو 1:18)، ولم أفهم معناها إلاَّ بعد أن اختبرت فعلها وقوتها في حياتي. إذ أنه بعد يوم عمل شاق بالدير، حيث كنتُ أُشرف على العمال من السادسة صباحاً حتى السابعة مساءً، رجعتُ إلى قلايتي وأردتُ أن الرب يعزيني ولو بكلمة. ففتحتُ الإنجيل وإذ بي أجد هذه الآية أمام عينيَّ: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُملّ» (لو 1:18). إنني طلبتُ تعزيةً بعد جهد شاق في العمل، وإذ بالرب يطالبني بمزيد من الجهد على مستوى العمل الروحي والصلاة. فقلتُ بلجاجة: "يا رب، أتوسل إليك أن تعطيني قوةً ومعونةً لكي أنفِّذ هذه الآية التي تُطالبني بها في هذه الليلة". وبالفعل استرحتُ قليلاً ثم غسلت وجهي ووقفتُ أصلِّي بعد أن صمَّمتُ ألاَّ أكف عن الصلاة بمعونة الله مهما كانت الأسباب التي تؤدِّي إلى الملل في الصلاة“.

”وبعد ساعة تعبت قدماي سريعاً من الوقوف, وابتدأتُ أشعر بصداع ضاغط على رأسي، ولما دامت هذه الآلام لبعض الوقت شعرتُ بأن نفسي مدفوعة إلى الملل، ولكنني غصبتُ على نفسي وقلتُ: مهما كانت الآلام فسأستمر في الصلاة ولن أتوقف قط. ويا للعجب مما حدث! فبعد وقت قصير جداً من هذا التصميم تلاشت تلك الآلام تماماً، بل إنني وجدتُ أن قوةً جبارةً تملأ كل كياني حتى استطعتُ بنعمة الله أن أقضي تلك الليلة كلها واقفاً في الصلاة وبحرارة وتعزية وخفة فائقة! ورغم أنني كنتُ أعمل اليوم كله وقضيتُ الليلة كلها واقفاً، فلم أشعر بتعب إطلاقاً. ومن ذلك اليوم تأكدتُ أنه توجد قوة روحانية تلازم الوصية، ولا تُعطَى إلاَّ لمن استطاع أن ينفذها بأمانة ودقة وإصرار“!

الكيفية العملية لربط العمل بالصلاة:

*

ويقول أبونا أيضاً عن كيفية ربط العمل بالصلاة: ”يكون ذلك بأن تعمل حسب حدود العمل المضبوطة، ثم يصير قلبك عمَّالاً بالصلاة بقدر الإمكان. فبربط الصلاة بالعمل يتقدس العمل والرب يبارك في الدير وفي الزرع والضرع، ويبارك الآباء ويزيد عددهم وتنتعش الرهبنة وتمتد. ولكن كيف تمتد إلاَّ بالمحبة الأخوية والالتزام بالصلاة أثناء العمل فلا يفسد؟ كما قال الرب عن الذين يطيعونه: «وأنتهر من أجلكم الآكل (أي السوس)، فلا يُفسد لكم ثمر الأرض» (ملاخي 11:3). تصوَّر أنه ينتهر السوس من القمح فلا يسوِّس أبداً! إذاً، فإن هذه الحياة المادية تأخذ بركة من الصلاة ولا تفسد. يحكي الناس عن نجاح عملنا وزراعتنا، لماذا؟ أليس بسبب اقتران العمل بالصلاة والحب“!

”فمثلاً سألني مرةً الدكتور يوسف والي وزير الزراعة عن نسبة النجاح في هذه الشتلات، فقلتُ له: 95?. فقال: "لا يمكن، فمعروفٌ أنها لا تزيد عن 70?". فقلتُ له: "عدّ الشتلات يا سيادة الوزير"، فعدَّها ودُهش وقال: "لا بقى، إنها صلواتكم"! نعم أنا موافق على أنها صلواتنا، فإن الله هو الذي يعمل لا نحن. فإن كان ربنا قد بارك العمل أو الرهبان، فما هذه البركة إلاَّ نتيجة الصلاة مع العمل، فيصير كل شيء يمجد الله ويُخبر بعمل يديه: «لا قول ولا كلام، لا يُسمع صوتهم، في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم» (مز19: 3،4)"

الإيمان والصلاة في حياة أبينا الروحي:

كان أبونا يقول لنا: ”الإيمان هو الذي يصنع المعجزة، والمعجزة شهادة على وجود الإيمان بشرط أن يكون الهدف من المعجزة تحقيق مشيئة الله وليس مشيئة الإنسان“. هكذا أوضح أبونا الروحي مرة حينما كان يتكلم عن المعجزة والإيمان: ”نحن نعيش على مستوى المعجزة“.

* قال أبونا أيضاً: ”كنتُ قد أخذتُ عهداً مع الله أن اليوم الذي لا يرسل فيه نقوداً نكفُّ عن البناء. ثم حدث أن كفَّت النقود عن الدير، فجمعتُ الآباء وقلتُ لهم: ’الرب لا يريدنا أن نعمل الآن‘. ثم صلّيتُ قائلاً: ’يا رب، إننا سنتوقف عن العمل، فإذا أردتَ أن نستمر في بناء الدير أرسل لنا ألف جنيه، وآخر مهلة لذلك هي غداً حتى الساعة الثانية بعد الظهر‘! واليوم التالي كان يوم جمعة وجاءت رحلات إلى الدير، وانصرف الضيوف حتى الساعة الثانية بعد الظهر. وعندئذ طلب صبي مقابلتي وظل يبكي، فلما علمتُ وافقتُ على مقابلته، فأعطاني خطاباً قائلاً إنه من أخيه الكبير، ورفض ذكر اسمه، فشكرته وصرفته، ولما فتحتُ الخطاب وجدتُ فيه مبلغ ألف جنيه! عجيبٌ أنت يا رب! فقد أرسل المبلغ المطلوب عند نهاية المهلة المحددة. فاجتمعتُ بالآباء وأخبرتهم أن الله ردَّ على طلبنا، فازدادوا ثقةً وشجاعةً وقررنا الاستمرار في العمل، ولم يتوقف العمل قط لأن الرب لم يتوقف عن تمويلنا قط“ (عن حديث مع بعض الرهبان صيف سنة 1982).

*

ذكر أبونا الروحي بعض القصص التي تدل على تأثير المحبة حتى على الذين هم من خارج الدير، ومنها: مرةً جاءت أسرة معروفة للدير وقالت لأبينا الروحي إن ابنتهم ستترك الإيمان بالمسيح، وأنهم في حالة حزن وشعور بالعار عليهم، وأنهم كانوا يتمنون أن تموت ابنتهم بدلاً من ذلك. فوعدهم أبونا بالصلاة من أجلها، ثم حبس نفسه في قلايته وظل يصلِّي نهاراً وليلاً بدموع مع الانقطاع التام عن الطعام والشراب لعدة أيام حتى صار منهك القوى، كما أوصى بعض الآباء أن يصوموا ويصلُّوا من أجلها. وظلوا يصارعون مع الله حتى نظر إلى تعب المحبة الصادقة وبذل الذات من أجل الضعفاء، وأعاد هذه الأخت إلى حظيرة الإيمان بأكثر قوة وغيرة!

وكان يقول دائماً للرهبان:

إن كنتَ تصلِّي من أجل إخوتك ومن أجل ضعفاتهم بحرقة قلب؛ فهذا مقبولٌ جدًا أمام الله. وهذا دليل أكيد على أن فيك روح المسيح، وأنك سوف تبني نفسك وتبني أخاك. فلينفعنا الله بصلواته من أجلنا.

إقرأ المزيد عن حياة أبينا الروحي القمص متى المسكين وبالتفصيل في الكتاب الذي صدر عن سيرته وأعماله:
كتاب السيرة التفصيلية
أو كتاب السيرة الذاتية الذي كتبه قدسه بنفسه


تُطلب هذه النبذة المجانية وباقي مؤلفات الأب متى المسكين من:
دار مجلة مرقس
القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 25770614
الإسكندرية: 8 شارع جرين، محرم بك - تليفون 4952740
أو عن طريق موقع الدير على الإنترنت:
www.stmacariusmonastery.org
أو عن طريق مكتبة الدير
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
(1) مقتبسة من كتاب: ”أبونا متى المسكين - السيرة التفصيلية“، ”أبونا القمص متى المسكين - السيرة الذاتية“. (2) روت السيدة لبيبة شقيقته الكبرى، التي ربّته منذ الصغر، قائلةً لابنها الدكتور صبري فوزي إن أبانا متى وهو طفل صغير كنتُ أمسك إيده وأنا أعجن العجين وأجعله يبارك العجين بعلامة الصليب التي يرسمها عليه بأصبعه، والعجين الذي يباركه كان يخرج خبزاً كثيراً جداً. (3) عن حديث له مع راهبين من دير شيفتوني ببلجيكا مسجَّل في يونيو 1977. ?? ?? ?? ?? 2 أبونا متى المسكين رجل الصلاة‏ أبونا متى المسكين رجل الصلاة‏ -100 98